الأربعاء، 25 يناير 2012


       رسالةآيرمبار
المرتضى / محمد اشفق
                                                                                        
ماكنت اتصور ان انزل من السيارة عند ملتقــــى الطرق واودع الذاهبين الى الاك في رحلة عمل صباحية وقبلتي بلاد الزنج .
القيت نظرة تدبر وتفكر على هوائيـــي الاك وخزان مياهه المرتفع رغم اسقامه وانطلقت بي السيارة شطر بلاد السودان , ومــــازالت السرعة تــــاكل القرى الصغيرة بنهم شديد: علب اجمل, بوحديد, وقرية صغيرة ابتلعتها قبل ان اراهــــــا, والعزلات والطنطان ..... حتى بدا ضباب بوكى وخزان مياهه , وبدات الاكواخ تظهروعجائز الطلح و"تيشط " تتكئ هنا وهنالك منبئة عن رحلة الفناء, ثم توالت عربات الخيل بسائقيها ذوي الاطباق الضخمة عــــــــــــلى الرؤوس, تذكرت سقوط بغداد وذلك المشهد العسكري الشعري في مطاردة الطيارين الامريكيين في حقول القصب على ضفاف دجـــلة بين الرصافة والكرخ, ودخلت بوكى وحجزت في سيارة عجوز مزينة بصور اسد واشجار, بحثت عن سليل لحمير او كهلان فخاب سعيي.
ركبت بيني والسائق فتاة في تمام عزها الجنسي , بضة نــــــاعمة الجسد ينم مظهرها عن يسار, شعرها مكوي حتى لتكاد ترى صفــــــحة وجهك في تلألئه , نهداها جنحا الى الرشد وان بدا منهما طيش ونزق كلما توقفت السيارة توقفا مفـــــــــــــــاجئا او مالت عن احدى الحفر, فشلت في البكالوريا مرتين , انست اليها لفرنسيتها الرقيقة الحذرة, وانست الي لوظيفتي وغبائها, ونشا بيننا ود عابر, كانت كلما نزل السائق يستقضي النازلين من الركاب تضجع مظهرة التعب والضجر.
كانت الشمس تميل قليلا الـــــــــى الغرب عندما عرجت السيارة الــــــــــــى اليمين وقالت ميمـــــــــــــــــون كــــــــــــــــــــــي: CEST LE  VIRAGE DE AERE MBAR CEST EN PEU LOIN , وغابت السيارة بين المزارع والحفر واشجار "ايزن" والانجاد الصغيرة.
دخلنا القرية المستقرة عند سفـــــــوح الهضاب فرايت دور افريقيا الضخمة ذات السقوف الخشبية والدخان يتصاعد من كل اتجاه, ورايتنــي مسؤولا ينزل لا يدري حدود اقامته, ونظرت قبلي فرايت اشجارا ضخمة ومآذن وخزانات مياه قيل لي انها فــــــي ارض السنغال, سلمتني ميمون كي ورقة فيها عنوانها واوصلتني سيارة ابيها الى دار العمدة .
دخلت الحائط وكان العمدة جالسا تحت عريش له 12 قائمة خشبية واستقبلني بحفـــــاوة ازدادت عندما علم مهمتي, وجاء رجال القرية ذلك المساء لما شاع ان مدير "كوليج" وصل , جاؤوا علـــــــى رؤوسهم القلانس والطرابيش وفي ايديهم العصي المعكوفة مثل المجتمعات الشرقية قبل التحديث , وبدا العمـــــــــدة يعرفني عليهم واحدا واحدا بالاسم والوظيفة فجلهم  قدماء اطر متوسطة , يستفيدون من حقوق المعاش, خطبت فيهم بلغة خائفـــــة اولا ثم اصبحت جريئة .
غابت الشمس وراء اشجار السينغال, ذبح العمدة شاة جهزها بنـــــــــوه وكان في غاية الحفاوة والكرم .
قدمت ميمون كي هذه المرة متحجبة تريد السلام علي فشكرتها وقلت لها أنت مهذبة.
في الصباح ركبنا الى بابابى ودخلنا على الحاكــــــــم وكنت البس ذلك اليوم دراعة نظيفة راقية اهداها الي صديق لعلها كانت وراء نهضة الحاكم السريعة للسلام علي , ولما عرفـــه العمدة على وظيفتي سقطت من عينه وتشاغل بقراءة (لوريزون) والسير الذاتية لاعضاء الحكومة, وكــــان حديثه آلي شبه رسمي , حديث كبير الى من هو دونه: كان يقول غير منتبه : العمل لم يبدا, آن له ان يبدا ...الخ                                                                                                                                                                                                                         
ودخل ولد البدوي وكان اهش وابش وجذبني الى الخارج قائلا: انت من اهل اغشوركيت؟ قلت نعم , فقال : داري دارك متى جئت هنا زرنا. وانتهت المهمــة بزيارة ثانوية بابابى الواقعة في الجانب الجنوبي الشرقي من المدينة تكاد تبتلعها عفونة الجو ووحشة التضاريس واربك المدير عندما فــاجاناه خلي البال تحيط به جماعة كبيرة من الناس يعسر ان توزع عليهم الردود بانتظام.  
كنت اسمع بآيرمبار مبكرا عندمــا كانت الاذاعة الوطنية تذيع اسمــــــاء الناجحين في مسابقة دخول السنة         الاؤلى اعدادية  و كان في الحي آنذاك مذياعان: واحد لمحمد حيبلاه ولد اغربط , وواحد لاسلم ولد اداع.
 كنا نتحلق حول احد المذياعين فـي السبعينات من القرن الماضي نتابع مع زملائنا اذاعة اسمائهم, ومضت السنون واختفت آيرمبار من ذاكرتــي الطفلة بناجحيها الكثر لتظهر من جديد في قاموسنا السياسي عاصمة لاحدى بلدياتنا الريفية .
وما كنت اتصور ان تتجاوز علاقتي بهــــــا هذا المستوى , وليس لذلك مانع ابدا, فانا احب وطني كله لان موريتانيا في شرعي جسم غير قابل للتشريح, اليس التشريح خاصا بجثث لم تعرف اسرار موتها وانـــــــا لااحب ان يموت وطني , لااحب ان تعبث بجسمه الغالي سكاكين المشرحين , رغم هذا ما كنت اتصور ان اجيء آيرمبار مسؤولا مقيما لايدري حدود اقامته .
انزعجت عندما اخبروني بالاقتراح , وترددت كثيرا لا لاني ابيض يحل باسود فذلك سخف أي سخف , بل هنالك حاجز اللغة وهناك غربة ثقافية ما في ذلك شك , لكن الا يمكن ان نعمل معاول العزم في جدار اللغة السميك حتى يتهدم؟ الا يمكن ان ينقلب الإيحاش إيناسا عندما ندرك اننا نعاشر قوما طيبين؟, وفـــــي النهاية انقلبت هذه المعوقات الى حوافز, فما احلى ان نهدم حواجز البعاد, فتتكشف الصورة والقيمة الحقيقيتان لهذه المجتمعات وتختفي الصور السماعية التي يصوغها الرواة وما اكثرما يضعون وما اكثر ما يظلمون.
وطئت قدماي ارض آيرمبار يوم الاحد 16/11/2003 الساعةال3 ظهرا, عندمـا مالت بنا السيارة يمينا عن الطريق المعبد ودخلت الاحراج على طريق متعرج,ونظرا للأنجاد التــــــــــي تحجب القرية فان قاصدها لا يراها الا حين يطل عليها من نجد تستقر دورها الشرقية عند سفــحه , ولاشك ان الصيام ومتاعب السفر والشعور بالغربة كل اولئك قد اخذ من مزاجي قسطا كبيرا.                                        
بعد ان استقررت وبدا العمل يسير منظما متعبا لانه يقتضي خلق مؤسسة تربوية من  فــــراغ, جاءتني وفود السلام والعرفان بجميل لم اصنعه, جاء وفد آير كوليرفي اربعة رجال : نبيل ومتوسط الطبقـة وفلاح ومدير المدرسة الذي يقوم ايضا بمهمة الترجمة, وبعد تبادل الخطب وقد فجاتني بلاغة القوم وغنــى حقلهم التعبيري اروني كبشا وبعض الزاد قالوا انه ضيافة متواضعة يلتمسون مني تقبلها فاعتذرت بانــــــي لست ضيفا وبعد اخذ ورد اقنعني العمدة انهم لايساومون فـــــــــــي رفض المعروف, وجاء وفد سنوبوسوبى  في صورة مماثلة, ثم وفـــــد قرية آيرمبار في نفس الصورة وبدات اكتشف فضيلة الكرم وترسخ الثقافة الاسلامية في هذه المجتمعات .
بدء الزيارات:
  منتصف مارس 2004 الساعة ال8 و15د خرجت ودليلي من الباب الغربي وسلكنا مساحة شاسعة من سهل شمـــام المنبسط, كانت الارض حديثة عهد بمطر غزير وعاصفة هوجاء جاءا فـــي غير ابانهما واذاقا ضخام الشجر ودور الزنك مرارة الغلبة والبطش, وكنا على بعد كيلومترين من نهر السينغـال وقد غمرت المياه الوهاد والمنخفضات, اما القمر فقد بدا في عز تمامه فاضعف ذلك وحشة المكان وعفن البيئة.
لما اكملنا طريق السهل دخلنــــــــا القرية من زاوية منحرفة وسلكنا ممرات كطرائق النمل لايمكن ان نمرمنها  الاواحدا تلو الآخر , وكان دليلي يتقدمني وينبهني الـى المزالق والحفر, وقد اختفت الجهات في هذه المرحلة
من الرحلة والقمر وحده ينبئني انه فوق وانني علــــى الارض, قادنا الزقاق المتثني كآثار افاعي الصحراء الى الجامع القروي حيث يقابل بابه باب دار "ميكا".                                                                                             
سلم دليلي فرد شبح تحت شجرة عملاقة من "كين" يؤنــسه صوت مذياع استنفد اقصى درجات الصوت تبث منه RFI برامج مختلفة رد التحية وعلــى بعد 4 امتار ينتصب عريش اوى اليه بعض افراد اسرته, نهض الشيخ منحنيا واشار الى (مطلة ضامرة ) وقال لي تفضلوا( ديركتير) ونادى بناته قال هذا المدير انهضن لتحيته, رددت على البنتين باشارة يدوية,و جاءت احدى ازواج ميكا وبدات نشيد السلام بايقاعه وفواصله فجزمت انها تتقن البولارية وانـــــــا ارد بمزيج من حسانية وفرنسية الويهما ليا زعما ان ذلك اقرب الى فهمها لكن حاجز اللغة وقف سميكا غليظا فلا انا افــــهم مما تقول شيئا , ولاهي تفقه مما اقول شيئا وانخفض الصوت وتكررت عبارة : الحمد لله الحمد لله بسمل بسمل فادركت انها لحظة احتضار التحية.
ميكا جيب جاللو شيخ كبير , يتكلم الفـــــرنسية كما ورثها عن المعمر الفرنسي ولد حوالي 1926 ودرس في كصكص قرية على الضفة اليسرى للنـهر, عمل في سلك الشرطة السينغالية سنة 1952 ضابطا ثم مفوضا 1957 وتنقل بين سينلوي وانجربل وداكار واحيل الى التقاعد سنـــــة 1982 تاريخ تخرج محمد ولد حامد
يذهب كل 7 اشهر الى داكار لياخذ مرتب المعاش.
ميكا رجل مزواج قال لي ان ابناءه كثر لله الحمد والبنات منهم يفقن الذكورعددا .
ينتمي ميكا الى قبلة صوتين واللفظ كما يزعم عربي مثنــــــــــى صوت, وقد قدمت القبيلة من الشام حوالي 3000 سنة قبل الميلاد, واستقرت في المنطقة الممتدة من واد قرب انباني يسمــــــى ديرول الى انجـــرول قرب دار البركه, ونظرا للاحداث والحروب اضطروا الى اجتياز النهر وبناء كصكص سنة1617.
اما قرية آيرمبار فقد  بنيت على الضفة اليمنى حوالي1800.
تتكون قبيلة صوتين من ثلاث اسر رئيسية هي: -جاللو – جنك صاو ايدي – وتال.
وهنا ادركت ان وقت دخوال الشيخ مضجعه قد حان فودعته وللحديث بقية.

                                          
                                               في دار العمدة:

قضيت العام الدراسي 2003/2004 فــــــي بيت العمدة جنك ممـدو عبدولاي , وزوجه ام انجاي وبنته الشابة جارو وطفـــــــله عبدول , خصصوا لي اجمل غرف المنزل: الصالون ومن اول يوم زال كل حرج وشعرت اني في بيتي وبين اخواني.
كان جنك ممــــــــدو عبدولاي صديقا بشوشـا لـــــم يبد منه قط ملل او استثقال , رغم طول الاقامة , وكانت الابتسامة والدعابة والاحاديث الجادة الــــــــــصافية , تتخلل جلساتنا دائما ,وقد بذل جهـــودا جبارة لنجاح مهمتي ولانطلاقة الاعدادية, وفر قاعة الدراسة , وقاعة المكتب , والطاولات ولاحظت فــــــــي الرجل عمق الغيرة , والوطنية والشعور بالمسؤولية, وفر لي سيارته حتـى لمهامي الخاصة وباختصار كنت اشعر معه بالاطمئنان التام.
اما زوجه ام انجاي فمن النساء النادرات سمتا وكرما : لــقد عاملتنــــــي خلال سنة تامة بود لـــم ينقطع ونبل لم يفتر ... . لما قدمت , ولاحظت فـــي اليوم الاول اني تناولت قليلا مـن القهوة والخبز اخذت علــــــى نفسها ان تعد لي الـــنشاء كل فجر قبل العمل , تشرف عليه بنفـــــسها , ومـــــا ونت ولـم تتاخر يوما حتى فــــــــي فــترات البرد القارس..كانت تشرف مع ابنتها جارو علـى بناء قبتي (الناموسية) لـــم تـــــــــتركني مرة ابنيها بنفسي  وعند مــا جد ظرف يقتضي ان استقل فــــــــــــي بيت اخر امتنعت ان اخرج مـــــــن دارهم..تتلقاني كلما عدت الـــــــــى المنـــــزل بابتسامة وقور تختزل كـــــــل معانـي الـكرم الاصيل.غير حاسرة عن رأس ولا كاشفة عن ساق،  وكانت جارو وعبدول في غاية التهذيب والانضباط.
كان جنك ممدو عبدولاي عطوفـــــــا لاحظت ان داره ملآى  بـاقاربه, والـــده الشيخ مع ابنائه مـــــن زوج اخرى , ليست ام ممدو عبدولاي وهنـــــاك اخواتـــه واطفـــــالهـــــن , كــــــــــــــل هؤلاء ينعمــــــون بدفء الاسرة فــــــــــــــي جــو العطف والحنان والاحترام, ولاحظت امرا غريبــا فــــــــي اهل هذه الدار ,  فبحكم موقعها تختصر مسافة طويلة لبعض الــــجيران , فــيمرون من حائطها كأنه شارع رسمي دون ان يؤذيهم احد او يستثقل مرورهم , والـــــــــذي قد يكون في اوقات متأخرة.
هذه صورة مقتضبة من شـــأن هذا الـــــــبيت العظيم ,ارجـوالله ان يجزيهم عنــــي خيرا ويكــــــــــرمهم بعافيته وفضله.
امأ هل القرية بصورة عامــة فقد تحدثت عن ضيافتهم, وكانوا سواء  في احترامي وتقديري والحفــــاوة بي فلهم مني جزيل الشكر.
جنك ممدو عبدولاي: شكــرا لك ،ماذا أقول لك ومــــاذا أقول عنك ،وقد كنت نعم المضــيف ، ونعم الصديق ونعم الأخ ، شكرا لك ياهؤلاء جميعا اذكر دائما أن لك أخا وصديقا لن ينساك .....
أم نجاي....بل ماذا أقول لك أنت الأخرى ؟؟؟ شكرا لك لــن أنســى أم انجاي التي خدمتني بنفسها واستقبلتني بالبشر والحفــــــاوة بدرجة ظل مؤشرها متصاعدا عامــا دراسيـــا كـــاملا ,  اذكري أن لك أخـــا يحتفظ لك بكثير من التقدير والإحترام.
اما أنتم يااهل قرية آيرامبار، وجماعة الـمسجد كم أنا فخور بكم ، كم أنا سعيد لأني رايت من أبناء وطني من مازال يختزن معاني الكرم والدرجات العليـــا مـن المثل والقيم السامية الاسلامية , فلكم الشكر على ما ابديتم من صفاء وعطف وحسن سمت انا ابنكم دائما اينما كنت.




                                              المرتضى ولد محمد اشفق 2004

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق