الجمعة، 13 يناير 2012

 ذكريات
المرتضى ولد محمد اشفق
لم ترق للطفل معلمة القرءان الاولى التي اشتهرت بالصرامة والجد "فطمة بنت ءابو" رحمها الله , فقد كان يخافها لكثرة ما يسمع من اساطير زملائه الاطفال حول شخصيتها ...رحل الى معلمة اخرى لم يطل مكثه معها "لجدل"رحمها الله , لانها لم تكن تستطيع ان تضربه لقرابته , وما زال الصبي يذكر انها عانت يوما من ءلام حادة في المعدة كاد يغمى عليها منها , ربطت بينها ومسك اذن الصبي الواجم الناظر الى الآفاق بعيدا عن لوحه و"كتبته" سمعها تقول ذلك لاختها وابنتها , فاستانس بالامر وخيل اليه ان معلمي القرءان مستقبلا سيخافون الاساءة اليه....ردته عنها , ليستقر عند معلمته " فطمة بنت ببكر " رحمها الله , وعليها تعلم الحروف ..تعلم القراءة والكتابة وقد كانت هادئة رزينة كثيرة الصمت , وكان كلامها اقرب الى الهمس , استانس الطفل بها فقد كانت تملك قدرة تربوية عجيبة لولا اظافر امها "اخديجتن" التي كانت تخز كالابر الاطفال المشاغبين, وكان صاحبنا طيلة "السبتة" خائفا يترقب ان يشي به بعض شياطين الاطفال الى هذه المراة التي لاترحم من اذنب..
ثم حانت لحظة انتظرها كثيرا..لحظة يتمناها الاطفال الذين هم في سنه ..لحظة الترقي من المعلمة المراة الى المعلم الرجل
اليس ذلك دليلا على انه تحول من مستوى الطفل الصغير الذي لايمكن ان يبرح رعاية المراة , الى طفل كبير قادر على ان يدخل عرين الرجال , لكن المسكين ما كان يتصور ان تسود بيض لياليه حين بدا مسلسل الترحال بين ثلاثة معلمين لا يكاد يبدا مع واحد منهم حتى تعبس له الايام وتضيق عليه الارض بما رحبت , فيضغط على والديه ليرحلوه الى ءاخر, لقد كفر بنعمة المراة عليه فهي ارق قلبا والين طبعا من الرجل....كان معلم القرءان الاول صديقا حميما لوالده وقد خيل الى الطفل ان ذلك سيشفع له عندما يرتكب بعض الاغلاط ك"الترواغ" والتباطئ في حفظ "الكتبة" كان الشيخ احمد رحمه الله يرعى مصلحة الطفل قبل اهوائه , فقد انساه مداعباته له عندما كان يحضر مع والده ..بل انساه بعض الهدايا التي كان يخصه بها , فحل الحبل والسوط محل ذلك...عند الشيخ احمد التقى كبير التلاميذ "بكاه" , كانوا جميعا يخافونه ولم يكن نصيب صاحبنا من ذلك الخوف اقل شانا فقد استقبله "بكاه" بتحريض تلميذ ءاخر "سليمان /حيبلا" عليه ل "يتراذخا" ثم بدا مسلسل تاليب اترابه عليه لانه في شرعهم طفل ءاثم من حي اهل المدرسة رغم انه لم يدخلها بعد....علمه كبار التلاميذ ان يدعو على معلمه ويكرر اثناء "تصناته له" عبارات مثل "اكصر عمرك"يعطيك اجدام" يقرا ذلك بين ءايات القرءان ....وحاولوا ان يشاركهم التبول في قرب "لمرابط"في الطريق الى البئر.....رحل عن الشيخ احمد الى محمد يحيى ولد محمد اشفق رحمه الله لكن جلدة من "اصراعه" غافله بها على الظهر كانت كافية لتقرير الرحيل عنه بسرعة رغم حرص الرجل على تحفيظ الطفل وخشاته ان يقتاد الى مدرسة "النصارى"...استقر صاحبنا اخيرا عند معلمه المرحوم محفوظ ولد المنجى الذي درس عليه القرءان حتى نهايته.
ثم كان يوم ..يوم جديد في حياته انتظره طويلا ...ها هي والدته تهتم بثيابه لا كما كانت تفعل من قبل , بل بشيء من الفحص والتدقيق هذه المرة , وها هو خاله "ناجين" يداعبه اكثر من اللازم ..علم ان وراء ذلك خبرا .
امسك ناجين بيده وقال له انت اصبحت رجلا واليوم ان شاء الله ستدخل المدرسة..تسارعت دقات قلبه خوفا او فرحا او كليهما لا يدري , واذا هو داخل خيمة المدرسة ويفاجا بالتلاميذ الكبار : التهى ولد الحاج محم رحمه الله , محمد محمود ولد محمد اطفيل رحمه الله والحاج احمد ولد المنجى وغيرهم , هاؤلاء كان كلما مر عليهم وهو يتبع عجول لمرابط الى المرعى يسمعهم يغنون في غيبة معلمهم لبعض شانه (باب ول يرب لباي الصرب) , قدمه ناجين للاستاذ (محمد ولد محمد المصطفى ولد احمد) ولم يكد صاحبنا يستانس ب"مجم رحمها الله والمكبول حتى فاجاته ضربة "بامشحاط"طار معها صوابه وترك ءاثارا متعرجة على جنبه الصغير وفخذه , خرج يصرخ لا يلوي على شيء تبعه الاستاذ معتذرا انه لم يكن يقصده..لكنه عدا حتى وصل حضن امه..
شكل هروبه من الفصل ازمة كبيرة لناجين , فالحق ان الطفل لم يبلغ بعد سن التمدرس وانما جيء به ليكمل العدد القانوني لاستمرار فصل تربوي قبل وصول بعثة تفتيش باتت على بعد اقل من نصف ساعة من الوصول , وبفراره يفقد الحي حقه في المدرسة....حاول ناجين اول الامر ارغامه بالتهديد كي يرجع الى الفصل لكنه ادرك ان التلطف انجع , فوعده ان يمنحه "رجو" مذياعا ...ووهبه في الحال خروفا اسماه جمال عبد الناصر.
لكن عام 1968/1969 كان عاما متميزا ففيه دخل المدرسة تلميذا مستوفي الشروط وكامل العدة...كان معه في الفصل امحيميد ولد سعيد وعبد الجليل ولد احويبيب وسيد محمد ولد اغربط....الخ  كان في المدرسة يومذاك معلمان هما : الناجي ولد اداع مديرا ومدرسا للفرنسية , ثم التحق به الندى معلما للعربية ...لكن الذي كان يشده اكثر هو صديق تجاوز مرحلة الدراسة في الحي وانتقل الى المدينة "الشيخ عبد الله ولد احويبيب" وكان يريه وزملاءه في الحي الاستعلاء لانه لم يعد من اطفال البادية , كان يحكي لهم بطولاته في المدينة ويروي لهم كثيرا من الاساطير , كان في تصوره وتصورهم فتى متمدنا وكيف لا وفي متاعه "صابونة من المسك" , ومشط كبير , وقنينات عطر ربما يكون في بعضها ماء ....
كان صاحبنا يتمنى ان يلتحق برفيق صباه في المدينة وينعم معه بجوها وحريتها وطعامها , ويتخلص نهائيا من المزاوجة بين المدرسة ودراسة القرءان , وتحققت امنيته , اذ تقرر ان يحول الفصل الى الاك...
في الاك سجل التلاميذ الجدد حسب مستوياتهم وسجل صاحبنا في CM1 وكان معه في الفصل سيد محمد ولد اغربط , مريم بنت اداع , توت بنت بحام , شيت بنت ببكر , خدي سي , رمل بنت صمب فال , الشيخ عبد الله ولد انجيه...الخ وكان معلمهم سيلا ابراهيما , سيلا رجل شديد القسوة , كان يمارس العنف الجسدي على التلاميذ بشكل غريب , لا ينسى صاحبنا يديه المتورمتين من ءاثار الضرب بعصا غليظة لانه لم يتمكن من وصف مضاعفات مرض اصابه...ولن ينسى فرار  الشيخ عبد الله ولد انجيه وصراخه بعد ان طرحه ضربا والتلاميذ يحاولون مسكه وجره من "اتويجيله" لاعادته الى عصا سيلا...كان ايضا يمارس العنف النفسي , كان يترك الكتب داخل الفصل واذا افتقد منها واحدا اوهم التلاميذ ان له قوى خفية تخبره بالمجرمين...كنا نخافه وننسج الاساطير حول شخصيته واصوله, اذ كان البعض يقول انه من مالي..
وفي CM2 درسه معلم ترك في نفسه اثرا كبيرا , هو اتيام صمبا , على يده اتقن قواعد اللغة الفرنسية من نحو وتصريف , ومنه تعلم اقامة الفرق الليلية التي كان يتفقد فيها تلاميذه ويراجع لهم وهم حلق صغيرة حول اضواء المصابيح التقليدية "اللمبات" يغرقون في دخانها ويستدفئون بحرارتها...تيام صمبا افتقده صاحبنا منذ عام 1975 .
ما زال يذكر يوما وحادثة طريفة سنة 1974 في الاك , كانت والدته معه في دار خاله اسلم ولد اداع وهو يومذاك مدير المدرسة2 , وكان بيته يغص بالضيوف القارين , وفي حائطه شبه مخيم من ضحايا الجفاف وضعفة اقاربه يقوم عليهم , وقررت والدته العودة الى " لخيام" وكان في السيارة المرحومان محمد حيب الله ولد اغربط ومريم بنت صالح , ولم تكد السيارة تختفي حتى علا صراخ سيد محمد ولد اغربط يبكي ويدعو الله ان تنقلب السيارة ويموت كل من فيها , اما هو فقد اكتفى بالتمرغ حتى انقذته ءامنة بنت القاضي وقادته الى دار والدها , فوجدا اخاها حمود يطبخ بيضة على فرن تقليدي وبوسائل بدائية , فقالت له : اذا نضجت البيضة اعط منها نصيبا لقريبك هذا , فصرخ حمود بالويل له واقسم الا يشاركه فيها احد ورفع يده وكاد يصفع بها الصغير لولا امر عاجله قبل التنفيذ : حدث انفجار روع الحاضرين جميعا وروع حمود اكثر لان بعض الشظايا اصابته , انفجرت البيضة لان فيه فرخا ..
نحج في "كونكور " سنة 1975 ودخل معه الفصل فتيان سيد محمد ولد اغربط ومحيميد ولد سعيد .....ويذكر من تلاميذ القسم كبادي ولد اندي , محفوظ ولد عم , يوسف ولد بحمادي , محمد يحيى ولد الكيرع, عيسى ولد بلال محفوظ ولد خي , فال ءابو بوبو ,ام صال , با ممادو جبريل, زينب بنت بل ومريم بنت اداع.....وكانوا اول فوج من التلاميذ تستقبلهم اعدادية الاك المفتتحة لاول مرة ...وكان فيها الرشيد ولد صالح مديرا واستاذا للعربية والتربية الاسلامية والمدنية , وديدي ولد باب استاذا للرياضيات والعلوم الطبيعية والتكنلوجيا , وبا فارا استاذا للفرنسية والتاريخ والجغرافيا والرياضة البدنية , ثم احمدو ولد احمدو مراقبا عاما ومقتصدا , وشيخن ولد احبيب مراقبا..كان الرشيد يقيم منافسات في الانشاء بين صاحبنا وزميل له في القسم هو السالم فال ولد اسلم , كان على الاول ان يصف قرية اغشوركيت وعلى السالم فال ان يكتب عن جونابه , ويحدد يوم للاستعراض يحضره الاساتذة وكبار التلاميذ وبعد قراءة الموضوعين يكتفي الرشيد من الحكم بالقول انه لا بد ان يزور تينك القريتين الجميلتين..اما با فارا فقد شد صاحبنا اليه شدا , كان يهتم به لصغر حجمه , بل كان يحمله على رقبته في بعض الايام بين الاعدادية والمدينة حيث كانت المسافة الشاسعة ءانذاك خالية من البنيان وكانت المدينة شرقا تنتهي عند حدود المدرسة رقم3 وهي حينئذ بيت واحد ويذكر  ان مديرها هو محمد محمود ولد حمادي..التقى با فارا عام 1985/86 عندما درسا معا في اعدادية البنين , وظل فتانا محافظا على سلوك التلميذ اتجاه استاذه بينما حاول الاستاذ ان يقنع تلميذه انهما صارا زميلي عمل , اعتقل با فارا بعدذلك في تهمة امنية وزاره صاحبنا في السجن وفاء لصحبة وتقديرا لاستاذ.
بدا امحيميد مشروعه في التخلف عن الدروس وكان احمدو ولد احمدو يحاول استبقاءه ....ثم بدا يهمس في اذن صاحبنا ان الدراسة جحيم لاصبر عليه وان عليهما ان يبحثا عن مستقبل غيرها....قال له يوما ان محمذن اوفر منهما حظا لان طعامه صار التفاح وان عليهما ان يلتحقا به في مندس..بدءا خطة الفساد بالذهاب الى اغشوركيت كل سبت في الشاحنات , ثم بشرب القهوة الرخيصة والغداء في المطعم الوحيد (مطعم اهل با مودي)الذي كان في الاك يومذاك ....وبدا يظهر في حياة صاحبنا امر خطير ! التدخين , اما امحيميد فكان طفلا مدللا بدا التدخين مبكرا وجهرا , وكان ياكل "كرت "الفستق حين كنا نمنعه لاسباب صحية , كانت له كاس خاصة من الشاي اما نحن فكنا " يخلى لنا" تترك لنا جرعة قليلة في الكاس جزاء خدماتنا , نعود الى الامر الخطير : التدخين ! بدا ذلك بجمع اعقاب السجائر من المحلات العمومية لان امحيميد قرر يومها ترك "البيت" - المحفظة التقليدية الصغيرة للتبغ – وصار عليه ان يحمل علبة السجائر ولا بد قبل ذلك من تدريب على اعقابها ريثما تتوفر القدرة والوسيلة...علمت ام الطفل بنبئه فقدمت واصلحت ما بينه وبين الدراسة ....لكن المشاكل بدات برحلة امحيميد الى نواكشوط مسجلا بذلك هدفا ءاخر من اهداف التحرر, والتفوق...وعاد , نعم عاد ليحكي لاصحابه تقريرا مفصلا وبرنامجا شيقا  عن رحلته العجيبة تلك.....قال لهم وهم يصدقونه انه رأى في انواكشوط ما لم تر عين انسان , وما لم يخطر ببال امرئ ...فقد كان كل يوم يتغدى مع المختار ولد داداه ومريم داداه , زار البحر(الاخظر) ورأى عرائسه وشاهد سقوط الشمس فيه ورأى الماء يغلي والنساء يغرفن منه ويصببن على الحوت والارز فينضجان في الحال , التقى سدات والشيخ ابني ءاب وغنيا له , زار مصنع الفضة , والاذاعة والفيلة والسباع , ثم تعرف على كثير من النصارى وخصوصا النصرانيات , اما شرابه في تلك الرحلة فكان غازيل وربما بعض الخمور, تعب من اكل وجبة لايعرفها الا اهل انواكشوط تسمى (امبور بير) دخل السينما وشاهد اشياء لا يمكن ان توصف ....على صاحبنا اذن ان يعد العدة للتعادل مع هذا الصديق الغريم!!! 

                                                                                 المرتضى ولد محمد اشفق

هناك تعليق واحد:

  1. جميل جدا اطال الله بقاءك يااديبنا الكريم

    ردحذف