الاثنين، 10 يونيو 2013


نريد شعرا سامقا كالنخيل 
المرتضى محمد اشفق

......ويبقى الشعر اكبر من التعريف...فليس الشعر حجما يقيس عليه صغار الخياطين قماشهم , ولا مسافات يذرعها مخططوا "الكزرات", ولا كتلا يزنها جمارك البحر على موازين ملتوية الاعناق....وليس الشعر حفنات من ذرة او دخن اوشعير يكيلها المطففون في تجارة الليل...الشعر دفق ..وانسياب ...واقتحام ...واقتلاع.... هو مداهم مباغت ...وزائر دون ميعاد ودون طرقات استئذان.......الشعر عجينة من عناصر الحياة المختلفة المتجانسة والمتضادة والمتنافرة...الشعر استطاعة وقدرة ...والشاعر هو من يخلق من هذا العالم المترامي المساحات , المملوء بوحوش الليل وعصافير الفجر ...المزدحم بالحرائق والمروج ....المتنفس بالفيح والشذا....المثقل بدعاء المستغفرين بالاسحار وسكاكين لصوص  العتمة مولودا يحمل جينات هذا العالم كلها...
الشاعرهو  من يمتلك المنشار والمعول والعلاة...وحفنة بارود وكيرا لا يتعطل , لينحت ..ويهدم ..ويركب .ويحرق ويفجر..ويجسم...ليس هناك شيء يسمى مائدة الشعر تنزل من السماء على صحون من فضة تحملها الملائكة الى خوان الشاعر....الشاعر محارب لا ينهزم ..ولا بد ان يمتلك ادوات المعركة....وهي كلماته الخاصة المشحونة بدماء فكره ..وصوره التي انشأها أول مرة من مفردات ومعان ودلالات متحولة في كل مراحل الرحلة في خريطة النص بتضاريسه المختلفة....ومناخه "التيفسكي " الجميل....
لكن ...عندما نتابع قراءات شعرية لبعض شعرائنا اليوم نستخلص اننا لا نفهم لغتهم او انها فارغة من قيم الشعر....وقد نهتز ونتمايل  ونحن نرى شاعرا ينشد قصائده وتصيبه "حال الشعر" , فيفنى في نفسه , وينفعل ويتفاعل حتى تزعجنا احيانا تلك " الكريماسا" التي تعبث بوقاره , وتجعل من صفحة وجهه مسرحا سمجا لحركات مضطربة وغريبة...لكنه اهتزاز يشبه  اهتزازنا على ايقاع  لامية الافعال , ونظم الاخضري , وصوت سوط الجلاد  , ومطرقة الحداد , وضربات القادوم يهوي بها قتلة الشجر على جذوعه ...هو استجابة لا شعورية لنظم الصوت وليس استحسانا للمسموع.....قد نستمع ايضا الى نصوص بلسان عربي مبين...فيها شيء من خميلة الشعر ودثاره ,  لكننا نفاجأ بان ما هيانا من قداح  لغمامة خلناها حبلى بآيات بديعات من ترانيم الفن و الابداع ظلت فارغة ...فقد طار كل ما توهمناه شيئا جميلا وفكرة ساحرة آسرة ,  ومات عندما اطبق شاعرنا شفتيه....كما لو كنا نتابع فقاعة من صابون ينفخها الطفل فتسبح قليلا في الهواء ثم تختفي دون اثر ...
قديما حكم على بعض شعرائنا  ان يحاكوا شعراء الجاهلية والعصور الذهبية للشعر عموما...لتشابه المحيط الطبيعي ونمط العيش ...كالخيمة والجمل والصحراء والرحيل...ولما كانت اسماء الاماكن في بلادنا وحسنوات الشعراء عصية على الوزن الخليلي حنوا الى نجد , وتهامة , ووادي العقيق , بل وحومانة الدراج وحومل , بدل علب آدرس , واكصير الطرشان, و بومبيبيغ , وتامرزكيت واغشوركيت....وتغنوا بجيد هند , وخصر لبنى , وخد ليلى , و فرع دعد , بدل اخويداج , وامريم السالمه , وام اتبيبيب , واسلم اخواله ...معللين ان تلك الاماكن وعذارى الشام ونجد  تحولت دلاليا الى رموز و فقدت علميتها ....وان رأى البعض ان للموريتاني وطنين : الاول هو هذه الارض البرزخية التي لا يقتنع بها مستقرا ولا مقاما , والآخر وطن روحي عاطفي , يواصل الحنين اليه رغم بعد الدار , و يتجلى ذلك في اسماء القرى العشوائية المتناثرة على الطرق المعبدة :  ستقرأ وانت في رحلة من الاك الى نواكشوط حاضرة بغداد , وجدة , والقدس , والصفا , وعرفات , والطائف , والدمام , والرياض , والبصرة , والفلوجة....الخ والغريب ان جل هذه المسميات ليست نابعة من العاطفة الدينية اذا ما استثنينا القدس وعرفات وام القرى مثلا...
كان كثير من شعربعضهم رياضة تقليدية , تستعرض فيها عضلات الثقافة المحظرية شعرا وتاريخا وقاموسا....كان نشاطا ارستقراطيا تحتكره النخب العلمية لان عامة الجمهور لاتستهلكه , ويوغل بعضها في الاغراب اللغوي والبديعي والبياني حتى يظهر النص شكلا معماريا تتحكم فيه الزخارف والمهارات الهندسية بعيدا عن روح الشعر ليظل اهل الصنعة بنى فوقية تحتل قمة هرم الطبقة العلمية...
لم يستطع بعض هؤلاء الفكاك من اسر الصورة الشعرية المومياء...الصورة الطلل التي كابدت رحلة شاقة ركبت فيها البغال والحمير والجمال , وسلكت المنعرجات حبوا , والانجاد زحفا , حتى ارهقتها العصور المتواليات من امرها عسرا....ورغم انها جاءت هيكلا غير متكماسك الاعضاء , فقد نصبها بعض شعرائنا آلهة للابداع البلاغي وجعلوا منها مثالا فنيا أعلى يتحصن بالعصمة والقداسة...صحيح ان ولد الشيخ سيديا ادرك ان الشعراء تحاصرهم ازمة ابداعية لا مخرج منها  فقال
يا معشر البلغاء هل من لوذعي         يهدى حجاه لمطلع لم يبدع
اني هممـــــت بان اقول قصيدة          بكرا فاعياني وجود المطلع
هي ازمة قديمة جديدة عبر عنها بشكل ما ومنذو عشرات القرون عنترة بن شداد بقوله :
هل غادر الشعراء من متردم            ام هل عرفت الدار بعد توهم..
حاول بعضهم تعريب المسميات - وهي ايضا عقدة خبيئة فينا – فسموا علب آدرس نجد البشام , واغشوركيت الجذيع ..
تملصا من كل ما يؤكد ارتباط ارض المرابطين بالبربر....متناسين ان ما تختزنه كلمة علب آدرس , واغشوركيت , وتامرزكيت من المعاني , والدفء , والحياة, بعيد كل البعد عما تحدثه كلمات : نجد البشام , والجذيع , وميمونة السعدى....فالاولى تهز كيان ابن الصحراء بتلقاية طبيعية ,  وبعفوية بريئة , لانها تتدفق بكبرياء التاريخ  , وعبق الثقافة , و سمو القيم , تستيقظ فيها الطفولة النائمة ...ويقطع فيها قرآن الفجر صمت الليالي الباردة ...وتنساب حكايات جداتنا عن "عنز البزي" و"بواتويلتميت من لحديد " منوما طبيعيا يسحب اليقظة من عيون الصغار...اما الاخرى فاشبه بصفحة تفسير الكلمات الغريبة في كتاب مدرسي ابتدائي , او ان تقول لطفلك ناولني قدحا من H2O لاشرب واتوضأ بدل ان  تقول الماء...
رغم هذه الاستثناءات فان جيلا عظيما من شعرائنا وعلمائنا فجر نهضة ادبية وعلمية في ظروف قاسية تطبعها البداوة والترحال , وشح المصادر والمراجع , ووسائل التدوين , في وقت كانت فيه الامة الاسلامية تعيش غيبوبة فكرية , وانحطاطا علميا دام قرونا ....ولكن الامر والادهى من كبوة العرب , ان احفاد ولد رازكه , وولد الطلبه , وولد الشيخ سيديا , ومحمد محمود ولد حبيب الل ومحمد يحيى الولاتي , وولد الحاج ابراهيم ( وكلنا احفادهم) وغيرهم كثير من اعلام امتنا ما زالوا يقفون اليوم امام تلاميذهم في درس الادب ليعترفوا بفداحة ما ارتكبه المؤرخون والباحثون العرب في حقنا حين اغفلوا وتجاهلوا نهضة منقطعة النظير احتضنتها بلاد صحراء شنجيط , يقولون لتلامذتهم بعد توطئة عن عصر الضعف : ...وبدأت النهضة العربية مع جيل الرواد والرعيل الاول : البارودي واحمد شوقي وحافظ الخ ...الا يعلمون ان قصائد اجدادهم تغنت بها ركبان الملثمين قبل ان يولد البارودي وشوقي وحافظ؟؟؟؟؟؟؟
اما بعض شعرائنا " الحداثيين" فقد دأب على التقاط  قطع مختلفة من موائد الشعر الغريبة علينا...واذا نحن امام صحون تعج بابزار مختلسات من مطابخ نزار قباني , وابي ريشة , ومحمود درويش....نحن لا نعرف التوت ولا الزيتون  ولا الصفصاف لكننا نعرف النبق والبلح وتيشط وآتيل...ولا نعرف جبل الشيخ  , ولا دجلة , ولا الفرات  ,ولا بردى , ولا النيل الا في السياق التاريخي والحضاري المشترك...ولانعرف السندباد , و لا عشتار ( ولا يجوز ان نرمز بالمسيح  الى ما يرمز اليه به بعض  الادباء المسيحيين  , فالمسيح عندنا عبد الله ورسوله وكفى) ...فاذا تعلق الامر بمرجعيات زمكانية فان ايام مقاومتنا , و"كيعة الاك " و"تامورت انعاج" و"اشتف " و"جوك" و" آكرراي" و"اكليب إنيمش" وحوض آركين ...وبحيرة كنكوصه....  الخ احق ان تكون من مفردات احالاتنا المرجعية.....
حاول بعضهم تعويضا عن ضحالة الزاد اللغوي ان يتخفى وراء الغموض والايهام بالرمزية القاصرة....تسمعه يقرأ وينفعل ويشبع الامداد ويستحسن مقاطعه وصوره  لكننا – معشر المستمعين البسطاء – نظل في واد لا تصله الا اصداء صدئة غامضة تظل حروفها متدثرة بغشاء سميك من العجز والبرودة تخاف ان يفضحها النور ويصيبها الاغماء من رطوبة الاثير..
اننا اليوم بحاجة الى شعر نفهمه...شعر يكون ابنا شرعيا لتجاربنا الذاتية , لا لقيطا نستجلبه من مغاسل الآخرين لنزور له هوية وطنية...اننا بحاجة الى لغة شعرية فيها عمق البساطة وبساطة العمق ...الى ابداع حقيقي يهزنا ويذيبنا ...يميتنا ليحيينا.. نحس معه بالمتاع ....نسمع بين انفاس حروفه وجيب القلوب واناة الافكار ....نشعر فيه ان عصافير الحياة تغرد فوق كل غصن من حقوله آمنة مطمئنة....شعر يحلق بنا الى الفضاءات الرحبة بعيدا عن تحتية الالتصاق بالكلمات الخجلى والعرجاء , واساليب الانبطاح والعجز....اننا اليوم بحاجة الى كتابة بحروف وطنية , ولغة وطنية , وصور وطنية , وبلاغة وطنية , لاشرقية ولا غربية ...نريد ان يكتب شعراؤنا بمفردات تنتمي الى تموج صحرائنا , وشموخ جبالنا الملتحفة بالضباب , وكبرياء كثباننا يلسعها لهيب ايار , نريد ان نسمع همس امواج المحيط , ولغط اخاديد شمامه ....نريد ان تتعفر نضارتنا برماد غاباتنا المحترقة ....وتتبلل بنوار مراعينا الخضلة ...نريد شعرا سامقا كالنخيل ...رائعا كصهيل خيل المرابطين ,  مدويا كصرير اقلام محاظرنا ....هادرا كبحار مداد محابرنا , شامخا كهامات الواحنا الخشبية مصطفة متراصة تتحدى الابالسة من اقزام العولمة , وادعياء التقدم باسم حداثة بلا جذور....

المرتضى ولد محمد اشفق