السبت، 7 أبريل 2012


                                 
          الرصاصة الاولى
المرتضى / محمد اشفق

غابت الشمس مساء ذلك اليوم البارد وراء الغابات المتراصة , والحقول الممتدة ملء البصر في اصطفاف هندسي عجيب حول (بيبور) , تتبع تعرجاته وتحتضنه متماسكة كانهــــا تخاف ان ينفلت الثائر المائج ويضل الطريق...فــــــــــــــــي الافق بقايا سحب نحيلة , اكسبتها الشمس الآفلة لون اللهب...وفــــي السهل المنبسط تتناثر بضع كديات سمراء , اختار القادم من وراء البحار احداها لمقامه...كانت موجات البرد الخفـــــــيفة تهز الخيمة المضروبة على (الخوبه) هزا لطيفا...وكان الفـــــــــــــــــــــــــــتى الرومي يواصل سمره مع قطيعه المدجن وانامل الليل تعزف ايقاع الصمت والسكون...بدات النجوم تتهاوى كانما المشرق والمغرب يتحاوران عبر تراشق ودي بديع...كان الرومي يقرا في علو منزله معنى التكبر وهو يرى اولئك البداة حول مواقدهم في الحقول يستدفئون وفي الاخصاص والخيام المتناثرة يهجعون...
ما كان الفتى الرومي العائد لتوه من بلاده وقد نزع اشواك الشك من طريق نصره المزعوم يتصور ان ذلك السهل المنبسط وقاطنته (السذج)  يخفون مايخفون..فتية مشاغبين..(.فتية ءامنوا بربهم فزادهم هدى....وقد ابرموا امرا بليل..)..ما كان يدري ان هذه الليلة حبلى بمولود سيكون له شان أي شان..
مشى النصراني في الساحة فرحا وتبختر بطرا وهو ينظر الى الكون السابح في بحر الظلام , والعالم التحتي الصغير ينازل البرد والباعوض , والريبة في امر هذا الضيف الثقيل...تراكم الليل على بعضه فلا يسمع سوى الاصوات الوهمية يحدثها الصدى من لاشيء , وحركات ناشطة , الليل وهي عندنا الجن والشياطين والسحرة المتجلين في حيوانات وطيوركالكلاب السوداء والنسور والغربان...وربما انبعثت اصوات بعض المعذبين من نزلاء القبور..الى غير ذلك مما تختلقه المخيلة الشعبية المستندة غالبا الى الخرافة والاسطورة...طبعا لم يكن صاحب البشرة البيضاء يفكر كما نفكر, لكن له شياطينه وجنه..له مصادر شر يجهلها , يتخيلها ويسترق السمع اليها... رجع الى مخدعه واسلم نفسه لنوم اراده هادئا لكن شغب الفتية كان له بالمرصاد....ما كاد كبلاني يتابع بغبطة وهناء شريط الاحلام الذي بدا بتحقيق حلمه الكبير:(قلعة الاك الامنة) حتى جاء الليلة المخاض وبدا الطلق.. اهتزت الارض وضجت الافاق , وقطع الزلزال ذلك الهدوء الليلي , وتلك الاحلام الجميلة عن الفتى الواهم الحالم وهو يغط في نوم عميق...تسارعت انفاسه..تلاحقت نبضات قلبه...وجه الاوامر الى مجهول...صرخ ثم انهار وسقط...لم يمت..لم يتوقف قلبه عن الوجيب , لكنه تمزق , وتعذب , وهو يرى صرح احلامه يتهاوى ,.. لقد صار الحلم كابوسا , والكابوس حقيقة اذاقت الرجل وجع الفضيحة الشخصية حين زعم ان اولئك البداة السمرصاروا عجينة بين يديه , واذا العجينة تتحول الى حمم ونارتلتهم عظمة وجبروت فرنسا...نعم فعلها البداة السمرابناء الخيمة والصحراء ..تحرك فيهم دم الرفض والاباء..دم المسلم الحر يابى الخنوع والاستسلام..فيرى كبلاني وقطيعه المدجج , وفرنسا وعديدها وعتادها , كل ذلك يتقزم ويتضاءل ويتلاشى , لان الحق في قلوب المجاهدين وان كانت الوسائل بدائية اقوى من الباطل في قلوب الظلمة وان ملكوا العدة والعديد..وها هي الانامل التي كانت تعزف بهدوء ورتابة تشد الاوتار, وتغير المقام..صار الايقاع جلجلة والنغم زلزلة...والبنادق البدوية الخشبية ترسل خطابا عاجلا الى الفتى الرومي ..خطابا لن يحوجه الى ترجمان لانه سيفهمه ...الزمان 1903/12/09 ,المكان الاك , الابطال: الامير احمدو ولد سيد اعل وفريق من المجاهدين من جهة...واكزافيى كبلاني ورهطه على (خوبة)الاك من جهة اخرى...ونترك المشهد يروي نفسه : وابل من الرصاص على خيمة كبلاني وقطيعه , الخيمة تحترق , قتلى وجرحى في صفوف القطيع , الخيل تقطع الحبال وتجرى مجفلة في كل اتجاه , وكبلاني يرتعد فاقد الصواب وهو يتابع عملا متقن الصنعة : لعلعة الرصاص وصهيل الخيل في عناق شاعري...والقطيع يعوي والدماء تنزف..
لقد مات كبلاني مرتين : مات موتته الاولى هذه الليلة (1903/12/09 في الاك) عندما انكسر تعاليه , وبان زيف وعده , وجلدت كرامته , ثم حرم متعة ورحمة الموت في هذه اللحظة الصادمة , ثم مات موتته الثانية في تجكجة ليلة (1905/05/12 )  على ايدي فرقة استشاهادية بقيادة سيد ولد مولاي الزين وكانت حالة استثنائية فقل ان يقتل راس حملة استعمارية...
عملية الاك اذن ذات دلالة خاصة لانها الصفعة الاولى والمفاجئة , ففي ليلة 1903/12/09 في الاك دوت اول رصاصة موريتانية ضد المستعمر الفرنسي المتجلي في شخص كبلاني , اول حاكم فرنسي لموريتانيا, ليواصل الموريتانيون بمختلف الوانهم واعراقهم وجهاتهم معركة الجهاد المقدس ...فلقنوا المستعمر دروسا في الرفض والشموخ والاقدام ما كان يتصور ان امة بدوية تملكها , واذاقوه جلل المصاب ومرارة الهزائم وقدموا في سبيل ذلك مواكب من الشهداء هم الان احياء عند ربهم يرزقون.

                                   المرتضى ولد محمد اشفق

هناك 3 تعليقات:

  1. لله در الذين اقضوا مضاجع المحتلين

    ردحذف
  2. ما احوج اهل هذه المنطقة الى كتابة تاريخهم وتوثيقه قبل ان يندرس الى الابد

    ردحذف
  3. جزاك اله عنا خيرا السيد المدير و اله اننا لفي امس الحاجة لمعرفة تاريخنا

    ردحذف