الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

الرحالة موهوب (3)
المرتضى / محمد اشفق

ادرك موهوب  انه تدفق بكلام كثير امام "محمدو"..وتذكر ان احد خواصه همس في اذنه مرة قائلا : يا موهوب خذها مني نصيحة خيرا لك من حمر النعم , وصرر التبر الاحمر : لتكون نجما لا معا في سماء السياسية  تعلم اللغة الديبلوماسية , فقال موهوب : تلك لغة متخصصة يجيدها السفراء والقائمون بالاعمال ومن شاكلهم فكيف لي ان اتعلمها ؟ يا موهوب اللغة الديبلوماسية عندنا هي ان تتحاشى الحقيقة , هي الكذب , حتى اذا سئلت عن اسمك فلف ودر , ومص شفتك السفلى , وقل "أ" برواية ورش واشبعها مدا , وتعمد الغلط...ثم تبسم وانت تقول : اسمي مع السكرتير الخاص..ولوح بخنصرك وبنصرك فقط....وانج بنفسك....
تذكر موهوب هذه النصيحة لكن بعد فوات الاوان....وبدا له ان يكفر عن خطيئة قبلي الكلام ببعدي الصمت......
لكنه في سره مطمئن سعيد.....انقطع لنفسه في مناجاة داخلية , استخلص منها ان رحلاته علمته ان الكرم السياسي في بلاده رائع , وان الوافد - جديدا او عائدا بعد هجرة- تتحات ذنوبه السياسية حتى يكون كيوم ولدته امه.....فلا الذاكرة الجمعية وان احتفظت بتفاصيل سيرته غير المطهرة تحاسبه عليها...فلا يحتاج الى شهادة تبريز , ولا كفارة صغرى....بل لا يحتاج الى ان يعلن توبته ...حسبه ان يكون خشبا يزيد النار اشتعالا ولو بدخان اسود كالقطران...وان يغتسل في نهر الادران , ويمر على عرايا التشويه  ليجعل مسوح التقبيح على قيهله من جديد , تلك طقوس المؤمنين الاوفياء  لعقيدة النجعة والرحيل.....ولا تهمه الحدود الوهمية بين الفريقين المتصارعين ...هو سيمثل في كل فريق ...وسيكون بطلا في كل حلبة صراع ..فهو فنان في افتعال"الغيظ وتوززت"... سيقول حكماء كل فريق ألاّ صاحب بلا عيوب وسينشدون قول الشاعر:
ولست بمستبق اخا لاتلمه               على شعث أي الرجال المهذب
وقد دخل خلوة اصطحب فيها ديوان الحطيئة وبشار ....وحفظ كثيرا من "درر الشمت" من الشعر الحساني حتى امتلا وفاضه ومزوده ...بل اصبح هو نفسه لايصبر على اللغة المهذبة ...يصيبه الدوار فلا يهدا حتى يغرق خصومه المفترضين باسهال نتن من بذاءات لسانه , كان يتمرن في توجيه خطبه الى الحميراولا – فالحمير مامونة الشر , لاتعض كالكلاب والجمال , ولا تنطح كالكباش والبقر-  ليتخلص من حالات الارتباك امام الآدميين , واستعمل لغة جسده كمفتون خجول سحره لحظ عيطموس شرود.....استعرض موهوب كل هذا وهو يشغل مخزون ذاكرته وما سجله من تجارب اصدرها في كتاب سماه : المختار في  فوائد الاسفار واضرار المكث والاستقرار .
اكسبه شروده مع هذه الافكار شجاعة وهو يعود الى من هجرهم امس واعلن على الملإ افلاس خطابهم , وقذارة افكارهم , وانحطاط مراميهم ...فاسمعوه من الثناء والتمجيد ما لم تسمعه اذن المعز والرشيد , فالعود احمد والطالع اسعد....فقال موهوب ايها الناس ....ايها الناس  انا الهدهد لقد ذهبت عنكم لآتيكم من "سبإ بنبإ عظيم" ....فالحمد لله الذي تداركني من عثرتي , وسدد خطاي بعد ضلتي ...لم انس ايامي  بينكم كم كانت حلوة كاحضان الامهات ..كم كانت جميلة كاحلام الاطفال كم كانت عميقة كشعر المعري  ....لقد ساقتني شقوة رأيي , ونحس طالعي الى قوم غالبت القيء لما تبدت لي جموعهم , فهم كما ساصف لكم :
عيونهم غائرة كضحايا الإسهال....
ابتساماتهم شاحبة كرعاة الصيف
بطونهم منتفخة كالحوامل
أطماعهم كبيرة كجيف الجمال
أفكارهم صغيرة كأرجل النمل
لحاهم خجولة كخمر البغايا
يريدون غنى الدهر في يوم
وربح القرن في ساعة
يلبسون كالمشردين , ويأكلون كالمساكين
الحمد لله ان نجاني منهم كما نجى عيجلوف من جند سليمان
دوى تصفيق الجماهير حتى ذعر بعض الحاضرين وذعر موهوب نفسه من لجبة الاكف....فنتر مرافقه دراعته قائلا : انت غلطت هذا نص خطابك امام اصحابك الشهر الماضي ..قال موهوب ما زلت في غبائك القديم ..هم ايضا يعلمون ذلك ....لكنهم يقبلون مكرهين ...وينخدعون عارفين .....هذا مكمن الداء يا محمدو....نحن امة عطلت عبقرياتها في مختلف الفنون لتتمحض لفن العصر : التكسب السياسي.....نحن مجهزون على ضحية اسمها الوطن نمزقه ونحتقره  , ونختزل عظمته في حماقة طفلية....نطحنه ليسهل ازدراده الى كهوف معداتنا المظلمة ...الم اقل لك انك لن تستطيع معي صبرا....ان اصررت على ان ترافقني فلا تسالني ولا تعلق على  احاديثي ...فساكشف لك في قابل الايام من امرها خبرا....لقد نسيت احاديثي الماضية..الم اقل لك في سالف الحقب والاعصار , اننا في زمن العهر السياسي , ورجولة المخنثين ....وان الزمن الرديء سمح للخصية من اشباه الرجال ان يدّعوا افتضاض ابكار المواقف والافكار ...وتدنيس عذرية الفضائل والاخلاق .....الا نركض مسرعين لاختطاف رغيف من امام مسن قعيد....
لقد نسيت ان اخبرك ....نسيت وليتني ما تذكرت ....
في طريق عودتي يا محمدو اعترضني فارس غريب ...له قرنان يرتفعان حلزونيا فوق اذنيه....وقد ضفرهما ودهنهما ورطبهما بمسك غليظ سميك ...تقطر على رقبته حبات عرق ازرق وتختفي بسرعة ..تذكرت حكايات البادية والطفولة و"بوتويلتميت من لحديد"...اقشعر جلدي واحسست بشعري ينتفش وحركة غير محددة المكان تهزني هزا وتأزني أزا.....قال لي وقد ادرك اني انكر منه كثيرا : لا عليك انا نزيل مقبرة في تلك الاكمة التي امامك.....استاذنت حارسها فابى ..فغافلته وانسللت مسترخصا ما سانال من ضرب المقامع.....وعض الثعابين , انا هو انت ياموهوب....اهتزت الارض تحت قدمي وتلاحقت دقات قلبي حتى حسبته انسل وطار الى السماوات العلى ...ربت على منكبي قائلا : لا عليك يا أنا ..الا تذكر ؟ انت مت منذ دهور في رحلتك عن مضارب القبيلة ....واسلمت نفسك راغبا الى مقاصل القوم فشنقوك وصلبوك وعلقوك حتى سال الصديد الاسود من اظافر قدميك وتجمهرت الخنافس والنمل الاحمر يروون ويدخرون....انتفخت كالبالون الطائر وتساقطت اعضاؤك منتنة تملا جوف الوادي فلم يبق فيه ذربان, وتحلقت حولك الذئاب تاكل مشمرة على انوفها....دفنوك هنا ....وانظر يديك وقد مجلتا حتى سال القيح من اخاديد راحتيك ولما دفنوك حكموا عليك بالتصفيق رغم المجل ....تحسس تجاويف فمك فانت أدرد ولسانك مدور كافعى يسمك شدقيك الم تك خطيبا تقيء العوراء ؟؟ واليوم في قبرك الزموك ان تظل تمص لهاة عجوز مغراء من آل شارون , مثقوبة المنخر , بخراء , جخنّة , دقيقة الساقين....نخامتها كالمح..سرتها تدمى باستمرار وتقطر في محارة مشدودة بشعرة من لحيتك حتى اذا آلمك المص ولغت في ما تحلب في المحارة فيكون كالضماد وتعود العافية الى لسانك... وانظر الى تلة الجنادل تلك , ذاك احد رموسك وهناك حولوك الى شيخ وقور واجلسوك في بؤبؤ عوراء عيناء مغلولة اطرافك من خلاف لك ثدي واحد يتدلى الى كعبك ترضعه ديدان  رقطاء وثعابين صغيرة لا تروى كلما امتلات بطونها وضاقت بما حوت تسلقت على شعر لحيتك وبالت في انفك....هل ترى ذلك العجوز الاحدب الجالس جنب ذلك الجدث....انه شيخ من الجن خاله الشيطان يريد ان يستقضيك عن رشاوى دفعها لك ولم تف بالوعد كما هو ...لقد كنت اكرم من المطلوب وذلك جالب للضرر على الذين امتهنوا عد الحصى واستعذبوه....هل ترى ذلك الشاهد الرمادي الباهت ذاك واحد من اجداثك لكنهم حنوا عليك , بل اكرموك توقيرا لأمارات النبل البادية في صلعك من الخلف , وشعر صدرك فانت من عرق نقي لم تشبك كعاعة من نسب.....هناك حولوك الى كائن وديع في روضة ندية ..انت هناك قملة كسيحة ترعى عانة قرد عنين....
يا محمدو!! كل هذا وانا جالس يقظان ...نهضت مسرعا , واستعذت بالله من الشيطان الرجيم , وقرأت سورة يس وصليت الصبح لاول مرة في المسجد وكدت اصلي الضحى ....لكنني تذكرت انها "تكره" لمن لا يواظب عليها ...
هؤلاء هم نحن فما ذا تامل ان يفعل موهوب واشباح كابوسه ترافقه انى حل؟؟هل ترى ان ما نعيشه اليوم هو نفسه ما انبأتني به الكوابيس بعد ان نزعت الغشاوة من عيني واضمحل وهم الحياة....يا صاحبي انظر الي جيدا هل انا هو انا ؟؟هل انا  نائم ام يقظان ؟؟ ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق