الأربعاء، 29 أبريل 2015

                                               ردة:

المرتضى /محمد اشفق
لن تتسع هذه الكلمة لحديث مفصل تاريخــي ودقيق عن النظام القبلي في هذه البلاد قبل ميلاد الدولة الموريتانية الحديثة, فـليس ذلك موضوعها ولكنهـــا لن تبرأ مـــــع ذلك من إشــارة ولو خفية عجلة إلــــــى بعض النواحي التي تمس هذا النظام.
نحن نعلم أن هذه البلاد قبل قيام سلطة مركزية متمثلة فــــي الدولة الحديثة , كانت تسكنها مجموعة من القبائل التي لها نظمها وتقاليدهـــــــا الخاصة.. وكانت القبيلة توفــــــــــــر للفرد أساسيات حياته  كانت تحميه, كانت تعلمه , وكان يمارس فـــــــيها نشاطاته الاقتصادية كلها كالزراعة والتنمية , مع وجود نوع من التكافل الاجتماعي؛ يمكن أن نقول إنها كانت توفر له: الأمن , والغذاء والعلم .
أما عن الأسس التي ينبني عليها الكيان القبلي , هل هي : تاريخية عرقية ؟ أم جغرافية جوارية ؟ أم نفعية اقتصادية عسكرية ؟ فليس من أهداف هذه الكلمة الحديث عنها.
وبعد أن قامت الدولة الموريتانية كــــــان طبيعيا أن يشهد المجتمع الموريتاني فـــــترة تحول طويلة تحتضر فيها القبيلة كنظام مستقل لتندمج القبائل فــــــي كيان واحد هو موريتانيا , ثم يترسخ مفهوم الدولة شيئا فـشيئا في أذهان أفرادها , وطبيعـــي كذلك أن يكون تشبث الشيوخ الذين تربوا في حجر القبيلة بالقبلية أقوى إلى درجة التصوف , ريثمـــــا يتم التحول عبر مسلسل بنـــاء الدولة واستكمال أركانها.                                                                                                   
وفـــــي السبعينات وأوائل الثمانينــات من القرن الماضي شهدت موريتانيــــا أوج انتشار التنظيمات السياسية السرية على اختلاف إيديولوجيـــــاتهــــــا , وقد تقاطع جل هذه التنظيمـــات رغم تناقضها وتنافــــــسها فــي الامتداد الأفــــــقي , تقاطعـــــــت فـــــي نقطة إيجابية مهمة: هي الترفــــــــع عن "القبلية" مفهوما للإقصاء والتفرقة , والاندماج فـــي خطاب سياسي موحد(بكسر الحاء) تذوب فيه الفوارق والحزازات .. حتــــــى أن العلاقة بين أعضاء التنظيم الواحد كانت أقوى وأعمق من العلاقة التي تربط بين منتسبــــــي هذا التنظيـــم داخل قبائلهــــــــــــم , بل إن أعضاء التنظيم كانوا يجهلون تماما قبائل بعضهم وكان التشدق بالقبلية أمارة للسخف والتخلف الثقافي .
بعض هذه التنظيمات كان له حلم كبير , كبير جدا , كــان يحلم بالوحدة العربية , بل ولم لا ؟ بالوحدة الإسلامية الكبرى والتــــي تكون الوحدة العربية نواة لها.... لذلك كانوا يرون أن الحدود بين الأقطار العربية حدود وهمية وضعها المستعمر لإضعاف الأمة العربية , وأن الحكــــــام العرب عبدة كراسي وأن حرصهم على القطرية هو نوع من عبادة الذات ..
وكنــــــــــا نسمعهم يقولون إن هناك دولا مجهرية لا وجود لهـــا حقيقة إلا فــــــي أذهان مختلقيها..
في هذا الوقت كانت النخبة السياسية نخبة ثقافية , وكانت شعاراتها مغرية ومقنعة, تتحول بفـــــعل المبدئية والمثالية والتضحية في العمل السياسي السري, إلـــى عقيدة سياسية يستميت فـــــيهــــــــا مناضلوها, ودخل الناس في بعض هذه التنظيمات أفواجا يحدوهم الأمل في تحقيق حلمهم الكبير: أن يتحرر الوطن العربي من العملاء وتكون الوحدة العربية الشاملة من المحيط إلى الخليج ؛؛ ووقتهـــا ما كان يفكر فـي موريتانيا إلا كجزء من الوطن العربي الكبير ثم من الامة الاسلامية الشاملة, وكان يحظر استعمال عبارات لا تخدم هذا الهـــدف المصيري , كالأمة الموريتـــــانية وغير ذلك من الأســــاليب التجزيئية التي كانت تغيب فـــــــي الخطاب السياسي لبعض هذه التنظيمات .                                             
كان التكوين السياسـي توءم التكوين العلمي , يخرج التلميذ والطالب من قاعة الدرس ليتلقيا دروسا في العقيدة السياسية , وكان الشارع والبيت والمتجر والسيـــــــارة  مطبوعين بطابع علمي: ترى في السيارات كتبا , وفي الصالونات مكتبات وفـــــــــــــــي الشوارع إعلانات عن محاضرات أو أمسيات شعرية, وكان الأمي والضئيل الحظ من الثقافة – وإن كانا من ذوي الجــــاه والمال – يشعران بعقدة النقص , حتى لنرى في سياراتهما كتبا خلف المقاعد وفـــــــــي بيوتهمـــــا كذلك كتب لا تفتح لأنهما يشعران بالقهر الثقافي, ويدركان أن من فاتته الثقافة يبقى شقيا وإن ملك الدنيا بأسرها.
واليوم - ولا نستطيــــــــع أن نقول خلف خلف لأن جــــــيل الردة اليوم هو جيل الإيمان أمس – ارتد المثقفون فتخلوا عن رسالتهم ومراكزهم كقادة فعليين فـــــــــــي الاتجاه الصحيح ولهثوا وراء المال وأباحوا كل الطرق حتى الكفر بالمبادئ والمثل حتى لاأقول الكفر بالله .
ولما كانت موريتانيا غائبة في فترة الحلم (أمس) فقد غابت أيــــــضا في فترة اليقظة (اليوم) , حيث كانت الردة شديدة وعبر سقوط حر, ارتدوا من الإيمان بوحدة تذوب فيــــها الدول ككيانات , إلــــــى الارتماء فــــــــي الحضن الصغير, إلــــى القبيلة , والقبلية هي داء موريتانيا العضال الذي استشرى واستفحل وطغى , وصار المثقفون هم محترفيه المهرة والمتفننين فـــــــــي تمريره كخطاب سياسي معاصر,  وإذا نحن نعود إلـــــى فـــترات كنا نخالها ماتت واستوطنت مقبرة الزمن... وبدا اليوم أنها كانت فـــي بيات شتوي , وأن الطلاء الذهبـــــي الذي كـــان بعض مدعي المبدئية يغطي به أفــــكاره الصدئة قد انمحـــى بالاحتكاك , وظهر الصدأ أشد تآكلا و"أرفع من صوته أولا".



                                       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق