الاثنين، 16 فبراير 2015

الكتابة مغامرة...
المرتضى /محمد اشفق
يمر النص قبل ان يصبح مادة معروضة في موائد الفن والادب , ووجبة من وجبات الثقافة والفكر , بمراحل مخاض عسيرة ..وتعترضه عقبات جمة ومعيقات موجعة , ومعابر محروسة صعبة الجواز...
فهذا الرقيب اللغوي واشدد به من رقيب عتيد ...يمرك على طريق طويل اول مفتشيه سيبويه , وبعد ان يرهقك جرا ونصبا ورفعا , ويشبعك فحصا وتمحيصا ونصحا بالاحتياط , وايقاعا في مهامه التاويل وتعدد القراءات , يجيزك الى الفراهيدي ليزن حتى اوتاد خيمتك بالدانق ومثقال الذرة...قبل ان يستبقيك مدة في غرف الحجز الست عشرة ..ثم تعرج على الجاحظ  ليجس نبض نصك ببيانه وتبيينه ويلقي عليك درسا مستفيضا في الفرق بين المقتصد والبخيل....فان وضع الثلاثة ختم القبول على تاشرة مرورك ,  ووهبوك رخصة التجوال الحر, وظننت ان قد تعديت الصعاب, وتراءت لك الطريق منبسطة سالكة الى العوالم البكر  , اعترضتك المفازات التيه المتنفسة بفيح الحميم لتنضب شلال عطائك , وتمتص الندى في نضارة كلماتك  , وتذر الغبار الرمادي على الق عباراتك ... تجد نفسك في قبضة الرقيب الاجتماعي والخلقي فتشعر بحدة الضغط  , والصرامة في التحقيق ,  والتفتيش في تجاويف حقائب سفرك عن مادة محظورة , او مخدر ملفوف في الجيوب الداخالية ..اوحزام متفجرات لنسف الحواجز المنصوبة امام النصوص المتمردة. ...الكاتب في هذه المرحلة من الرحلة يحتاج جرعة جرءة زائدة , ويحتاج شجاعة لاقصاء المعيق حتى يتحرر من الكتابة تحت الوصاية , لا بد ان يتحلى بروح التحدي المسؤول لاختزال بعض الوقفات الشكلية من برنامج التحقيق معه.....
هنا يخبرك حراس  بوابات العالم الذكوري ان الكلمة  "الانثى"ممنوعةالدخول...قطيع الكلمات الماذون له هو فحول كثئران"الجلابة" كل كلمة فيه طويلة اللحية مثل "كارل ماركس" يتدفق من علبائها وقذالها عرق اسود كريه الرائحة ...لامجال ابدا لكلمة فيها تغنج ودلال , فتلك فاجرة تشيطن الضعفاء وتدغدغ مشاعرهم وتحرك فيهم طبعا غير مرغوب , وهنا اما ان تطيع  فيتحول النص الى درس محض في الارشاد والوعظ المتشدد..او ترفض الركوع والاملاء فتسجل في الآثمين...  
ظاهرة التطرف والغلو والارهاب لا تهدد فقط القادة والسياسيين ..هي مع هؤلاء ظاهرة فتية , اما في المجال الادبي فقديمة قدم الكتابة نفسها , تتجلى تارة في صراع الاصالة والمعاصرة ...(معركة التجديد والتقليد ...اشكال القدامة والحداثة , الثابت والمتحول) , وغير ذلك من المصطلحات التي غزت الساحة الادبية والنقدية خصوصا...بجيشين عظيمين من المحافظين والمجددين.... هذه حقا مراحل قاسية , مخيفة , مثبطة , صارفة عن رحلة مغامرة غير مامونة العواقب .
فاذا حانت لحظة الحسم , وجاء الاديب المخاض بعيدا عن جذع نخلة يهزه اليه هزا لتساقط عليه رطبا جنيا , يقول له قائل مشفق عليه : ياابن ءادم ما كان ابوك امرأ سوء وما كانت امك بغيا , لقد جئت شيئا فريا ..
الكتابة  اذن معاناة ووجع ... وءالام , وترقب لاحكام قاسية تصدر في حق كل من ءامن ان سلطة الفن  سلطة حاكمة غير محكومة , وان حرية النص ورجولته يتجليان في رفضه الرضوخ لثقافة التدجين...
هي حرية في ظل الالتزام بالمبادئ الكبرى والقيم السامية (دينية - خلقية – اجتماعية – جمالية...وهي قيم ينبغي ان تظل متداخلة) خدمة للامة والفرد في مناحي الحياة المختلفة .....بطرق مباشرة , او غير مباشرة , تلميحا اوتصريحا , وعندها يجب ان ننظر الى النص -  شكلا ومضمونا- بعين اخرى مكبرة ملتمسة - بامكانية تعدد التاويلات – الفهم الكبير المشحون بالتاسمح والانفتاح بعيدا عن التقليب لرؤية الجانب الملتصق بالارض , فهو لا شك متسخ معفر بالرغام ....
هدف النص  اثارة لقيمة او لمجموعة من القيم , وخصوبته  وثراؤه يكمنان  في امكانية تعدد التاويلات ..لهذا يرى البعض ان النص الخالد يولد مع كل قراءة , وكاتبه يبقى صاحب النسخة الاولى  التي خرجت نتيجة عوامل وظروف معينة....وقد تتغير رؤية الكاتب كما تتغير ءاراؤه وافكاره ومطامحه , لكن النصوص التي كتبها بآراء وافكار قديمة ينبغي ان تبقى كما هي , لانها شهود حقبة , ولانها ابناؤه الشرعيون , ولا يجوز ابدا ان ننكر ابناءنا حتى وان خالفونا الراي والفكر....فبعض الادباء عندما تتقدم به السن يرى  بعض اغراضه الادبية القديمة لغوا وفضولا , ان لم يرها ءاثاما تستوجب التوبة النصوح  بالحرق قبل ان تعاجله كف المنون...وبذلك تضيع تجارب وحقب وعوالم من الجمال والسحر الحلال...  

والماساة ان  لابد لزوار وادي عبقر من شر ينتفعون به , وضر يسعدون به ,  ضريبة يستدرون بها ملوك ذلك العالم الليلي , الجني , المخيف عندما يبدا التشكل الداخلي للنص ,  واعراض وحم الكتابة , وءالام الحمل , والخوف على الجنين الذي يريدون له ان يكون خلقا سويا....


                                     المرتضى ولد محمد اشفق

الخميس، 5 فبراير 2015


المرتضى /محمد اشفق
حكايات اسلم

كان صباحا جميلا من صباحات الصيف المعتدلة...طلعت الشمس متلفعة بملاءة شفافة من سحب يونيو الاستطلاعية....في الجانب الغربي بقايا قمر دهمه الفجر في مجلس انسه  قبل ان يرحل الى مضجعه في البحر "الاخظر"...لقد بات والشمس(بفتح السين) في صحن سماء تلطفه هبات من رياح المحيط.... بين وقت وءاخر تحتجب الشمس وراء السحاب حياء...ولم لا ولما يختف بعد ضجيع البارحة.....
احزن السحاب الزائر سيد سالم كثيرا...فقد كان يخطط لشراء نعاج اسلم بثمن بخس تحت وطاة الجفاف...لكن اسلم قطع الصمت بروايته حول زيارة الرئيس....
يحكى انه كان للبلاد رئيس حنون ...عطوف على رعيته ....وكان لا يهدا له بال حتى يزورها في ديارها وان شطت وحالت دونها الحوائل العظام... وقته المختار حين يشتد الحر وتنهك الخلائق و يصوح النبت ولا يبقى في شبر هشيم يرعى....حتى قال قائل الناس ان بالرئيس مرضا  اعجز اطباء الروم وحكماء الهند وسحرة افريقيا....وان دواءه هوالسموم والترجل في الهاجرة على رمضاء القرى المنسية في مهامه التيه والضياع....
كان في كل مرة يلقي خطابا طويلا....ويحث على الانترنت والبيض المسلوق....ويحذر من الطلاب العائدين من الجامعات الاجنبية..
قال اسلم : كنا ايامها جماعة من الساقطين والفضوليين...لا نحافظ على شرف ولا مروءة...نتحين زيارات الرئيس  لولايات الوطن ....فنندس في تلك الجموع قابلين بمؤخرات السيارات تارة واهانات واذلال السائقين وعجرفتهم تارة اخرى.... بعضنا يختلق انه من المخابرات جاعلا من تنكره في لثامه الاسود بطاقته المهنية ..وبعضنا يوهم انه من الصحافة ايام كان الناس يخافون حتى كتابات المتطفلين المتعثرين من ادعيائها وكنت منهم ابتز صغار الموظفين وبعض العامة.. عندي  مصورة من "مصورات الحجاج" التي يحضرونها من مكة للاطفال...و اهل بعض المناطق يصدقونني بمجرد. سماع صوت تحريك دوائر الالعاب  فيها..... كنا ننجح حسب تخلف المجتمعات المزورة...على كل حال كنا نركب مجانا وناكل الطيبات مجانا لا ندفع الا كرامتنا وكبرياءنا ثمنا لهذه السياحة المباركة فهي اذن ليست باهظة الثمن ...
و ذات يوم بدا الرئيس خطابه امام سكان قرية لا يهتدي اليها المطر الا بعناء شديد وربما اجل زيارتها الى موسم ءاخر....لكن خطاب الرئيس بدا بعد ان صاح منسق الربط حاثا الجماهير على الصمت والهدوء والانضباط.....جلس وجهاء الحي قريبا من الرئيس وقد كوروا رؤوسهم بعمائم سود وتركوا اعلاها عاريا للشمس لكانما على رؤوسهم عجلات العربات الصغيرة (بروتات)..واوصاهم ممثلوهم في الدولة بالمبالغة في التعبير عن استحسان كلمة الرئيس .. اوصوهم غافلين انه اذا كانت مفردات الرئيس هي حركات يديه وتكشيرا دائما هو ألم ولادة عسيرة لكلمات تظل تتدحرج في تضاريس حنجرته الوعرة حتى يطرحها وكاد يلجمه العرق , فان لاهل البادية حقولهم التعبيرية الخاصة.....صاح احد الاعيان بعد اشارة خفية من عين جليس بعيد وبدا التثمين والتمجيد لكن بلغته الخاصة ..دعا على الرئيس بحرق اعضاء ابيه الداخلية ...ثم ازداد حماسه وعض سبابته وحرك يده بعنف واحدثت اصابعه فرقعة  كالرعد فدعا باحتراق العضو الحميم لأم الرئيس يشفع ذلك كله بعبارة : ما اصدقك... بحسانية اصيلة لم يهذبها حظ من ثقافة .. بهت الوزراء والقادة وكبار رجال الدولة.....اضطربوا...ارتعدوا....فقد حاصرتهم جيوش الضحك ولم تترك منفذا للمسؤولية والالتزام.....فدعوا الله مخلصين له الدين ..ونذروا لئن انجاهم من هذه المحنة والبلوى لا يرافقون الرئيس بعدها ابدا ....نظر بعضهم الى اظافره وقد سمع من بعض عجائز قومه ان النظر اليها يصرف الضحك المباغت في الاوقات الحرجة.....وطلب بعضهم من جليسه ان يغرس اظافره في فخذه نشدانا للالم فما احلى الالم في هذه اللحظات القاسية....

لكن شيخا ءاخر اعلى مقاما من سلفه وابلغ لسانا وألحن بحجته فجأ الرئيس والقوم بما لا يخطر على البال.....صاح وافرغ كنانة بلاغته وفصاحته وجاء بامر عظيم.... فكروقدر ودبر ثم ابدع ....اراد ان ياتي بمعجزة بيانية يثبت بها  صدق الرئيس و بعده عن الكذب فقال: اقسم بسرة امي (ثم نفى ان يكون الرئيس قد اخرج ريحا)....كل ذلك باسلوب التصغير.....تحسس الرئيس مؤخرته لا اراديا وتماسك فشكر الناس على حسن الاستقبال....وقال لبعض خواصه : هؤلاء ليسوا بشرا.....فاشاروا عليه بالتركيز على محو الامية......اقسم اسلم انه وحتى اليوم لا يسلم على موظفي قطاع محو الامية لانه يشم فيهم ريح الرئيس.......

الأربعاء، 4 فبراير 2015

اعترافات دعي:
المرتضى / محمد اشفق

انا صحفي كبير
تعلمت كل الفنون التي يتعلمها صحفي كبير
تعلمت فن البلاغة والنحو والصرف والفقه
ثم تعلمت علم العروض
وعلم الكلام
قرات لجبران والمسعدي
قرات لنازك والمتنبي
ولابن محمدي
قرات شفاعة (هندي)
قرات الموطا وابن كثير
فما ذا بقي سوى ان اقول لكم انني كاتب واديب خطير
حروفي لهيب
وحبري جحيم
وهمسي هدير
واني بكل شؤون البلاد عليم خبير
لذلك
قررت سلك الطريق القصير
ساكتب في صحفي كل يوم عمودا
ابين فيه قصور الوزير
وعجز المدير
وإن يقسما لي نصيبا يخفف من نهمي
ويهدئ حرقة حرفي الأجير
يكونا عظيمي بلادي
وأحمهما من عذاب السعير
ولكنني ساظل اغني بمجد الامير
لان الامير على كل شيء قدير
انا كاتب واديب و"زير"
اعيش بارهاب شعري
وتمييع فكري
وتغيير شكل عجينة نثري
ولا تعجبوا سادتي
 فانا قد رايت زماني رديئا
وقومي يلوكون فكرا هزيلا
ويقرا شاعرهم في المحافل قولا ثقيلا
ولغوا طويلا
ومعنى نحيلا
ويدعونه شاعر الوطن العربي الكبير
ولست انا ايها الناس بدعا
من الشعراء
او الادباء او الفقهاء
انا صرت تاجر راي
وفتوى
ابيع كلامي ونفسي
وارضي وشعبي
لتشبع كل ثعابين بطني و جيبي
وليست لدي قضية
ولارؤية وطنية
ولا عربية
فهمي حياة اموت بها مثل أي حقير
انا متخم بقصائد مدح طويلة
انا متخم بمقالات سلق هزيلة
انا متخم بفتاوي جليلة
وسوف اقيء لكل غراب وكل حمار وكل بخيل وكل بخيلة
 حمولة عير
من الشعر
ثم ازيد بحمل بعير
وسوف اقيء الفتاوي البديلة
سافتي بان العفاف رذيلة
وان الفساد فضيلة
وعفوا
انا صحفي
فقيه
انا شاعرواديب صغير
انا ابن زماني
السنا بحالة موت الضمير؟؟؟؟
                                 

                                 

الاثنين، 2 فبراير 2015


نريد شعرا سامقا كالنخيل 
المرتضى محمد اشفق

......ويبقى الشعر اكبر من التعريف...فليس الشعر حجما يقيس عليه صغار الخياطين قماشهم , ولا مسافات يذرعها مخططوا "الكزرات", ولا كتلا يزنها جمارك البحر على موازين ملتوية الاعناق....وليس الشعر حفنات من ذرة او دخن اوشعير يكيلها المطففون في تجارة الليل...الشعر دفق ..وانسياب ...واقتحام ...واقتلاع.... هو مداهم مباغت ...وزائر دون ميعاد ودون طرقات استئذان.......الشعر عجينة من عناصر الحياة المختلفة المتجانسة والمتضادة والمتنافرة...الشعر استطاعة وقدرة ...والشاعر هو من يخلق من هذا العالم المترامي المساحات , المملوء بوحوش الليل وعصافير الفجر ...المزدحم بالحرائق والمروج ....المتنفس بالفيح والشذا....المثقل بدعاء المستغفرين بالاسحار وسكاكين لصوص  العتمة مولودا يحمل جينات هذا العالم كلها...
الشاعرهو  من يمتلك المنشار والمعول والعلاة...وحفنة بارود وكيرا لا يتعطل , لينحت ..ويهدم ..ويركب .ويحرق ويفجر..ويجسم...ليس هناك شيء يسمى مائدة الشعر تنزل من السماء على صحون من فضة تحملها الملائكة الى خوان الشاعر....الشاعر محارب لا ينهزم ..ولا بد ان يمتلك ادوات المعركة....وهي كلماته الخاصة المشحونة بدماء فكره ..وصوره التي انشأها أول مرة من مفردات ومعان ودلالات متحولة في كل مراحل الرحلة في خريطة النص بتضاريسه المختلفة....ومناخه "التيفسكي " الجميل....
لكن ...عندما نتابع قراءات شعرية لبعض شعرائنا اليوم نستخلص اننا لا نفهم لغتهم او انها فارغة من قيم الشعر....وقد نهتز ونتمايل  ونحن نرى شاعرا ينشد قصائده وتصيبه "حال الشعر" , فيفنى في نفسه , وينفعل ويتفاعل حتى تزعجنا احيانا تلك " الكريماسا" التي تعبث بوقاره , وتجعل من صفحة وجهه مسرحا سمجا لحركات مضطربة وغريبة...لكنه اهتزاز يشبه  اهتزازنا على ايقاع  لامية الافعال , ونظم الاخضري , وصوت سوط الجلاد  , ومطرقة الحداد , وضربات القادوم يهوي بها قتلة الشجر على جذوعه ...هو استجابة لا شعورية لنظم الصوت وليس استحسانا للمسموع.....قد نستمع ايضا الى نصوصا بلسان عربي مبين...فيها شيء من خميلة الشعر ودثاره ,  لكننا نفاجأ بان ما هيانا من قداح  لغمامة خلناها حبلى بآيات بديعات من ترانيم الفن و الابداع ظلت فارغة ...فقد طار كل ما توهمناه شيئا جميلا وفكرة ساحرة آسرة ,  ومات عندما اطبق شاعرنا شفتيه....كما لو كنا نتابع فقاعة من صابون ينفخها الطفل فتسبح قليلا في الهواء ثم تختفي دون اثر ...
قديما حكم على بعض شعرائنا  ان يحاكوا شعراء الجاهلية والعصور الذهبية للشعر عموما...لتشابه المحيط الطبيعي ونمط العيش ...كالخيمة والجمل والصحراء والرحيل...ولما كانت اسماء الاماكن في بلادنا وحسنوات الشعراء عصية على الوزن الخليلي حنوا الى نجد , وتهامة , ووادي العقيق , بل وحومانة الدراج وحومل , بدل علب آدرس , واكصير الطرشان, و بومبيبيغ , وتامرزكيت واغشوركيت....وتغنوا بجيد هند , وخصر لبنى , وخد ليلى , و فرع دعد , بدل اخويداج , وامريم السالمه , وام اتبيبيب , واسلم اخواله ...معللين ان تلك الاماكن وعذارى الشام ونجد  تحولت دلاليا الى رموز و فقدت علميتها ....وان رأى البعض ان للموريتاني وطنين : الاول هو هذه الارض البرزخية التي لا يقتنع بها مستقرا ولا مقاما , والآخر وطن روحي عاطفي , يواصل الحنين اليه رغم بعد الدار , و يتجلى ذلك في اسماء القرى العشوائية المتناثرة على الطرق المعبدة :  ستقرأ وانت في رحلة من الاك الى نواكشوط حاضرة بغداد , وجدة , والقدس , والصفا , وعرفات , والطائف , والدمام , والرياض , والبصرة , والفلوجة....الخ والغريب ان جل هذه المسميات ليست نابعة من العاطفة الدينية اذا ما استثنينا القدس وعرفات وام القرى مثلا...
كان كثير من شعربعضهم ممارسة ترفية ترفيهية , تستعرض فيها عضلات الثقافة المحظرية شعرا وتاريخا وقاموسا....كان نشاطا ارستقراطيا تحتكره النخب العلمية لان عامة الجمهور لاتستهلكه , ويوغل بعضها في الاغراب اللغوي والبديعي والبياني حتى يظهر النص شكلا معماريا تتحكم فيه الزخارف والمهارات الهندسية بعيدا عن روح الشعر ليظل اهل الصنعة بنى فوقية تحتل قمة هرم الطبقة العلمية...
لم يستطع بعض هؤلاء الفكاك من اسر الصورة الشعرية المومياء...الصورة الطلل التي كابدت رحلة شاقة ركبت فيها البغال والحمير والجمال , وسلكت المنعرجات حبوا , والانجاد زحفا , حتى ارهقتها العصور المتواليات من امرها عسرا....ورغم انها جاءت هيكلا غير متماسك الاعضاء , فقد نصبها بعض شعرائنا آلهة للابداع البلاغي وجعلوا منها مثالا فنيا أعلى يتحصن بالعصمة والقداسة...صحيح ان ولد الشيخ سيديا ادرك ان الشعراء تحاصرهم ازمة ابداعية لا مخرج منها  فقال
يا معشر البلغاء هل من لوذعي         يهدى حجاه لمطلع لم يبدع
اني هممـــــت بان اقول قصيدة          بكرا فاعياني وجود المطلع
هي ازمة قديمة جديدة عبر عنها بشكل ما ومنذو عشرات القرون عنترة بن شداد بقوله :
هل غادر الشعراء من متردم            ام هل عرفت الدار بعد توهم..
حاول بعضهم تعريب المسميات - وهي ايضا عقدة خبيئة فينا – فسموا علب آدرس نجد البشام , واغشوركيت الجذيع ..
تملصا من كل ما يؤكد ارتباط ارض المرابطين بالبربر....متناسين ان ما تختزنه كلمة علب آدرس , واغشوركيت , وتامرزكيت من المعاني , والدفء , والحياة, بعيد كل البعد عما تحدثه كلمات : نجد البشام , والجذيع , وميمونة السعدى....فالاولى تهز كيان ابن الصحراء بتلقاية طبيعية ,  وبعفوية بريئة , لانها تتدفق بكبرياء التاريخ  , وعبق الثقافة , و سمو القيم , تستيقظ فيها الطفولة النائمة ...ويقطع فيها قرآن الفجر صمت الليالي الباردة ...وتنساب حكايات جداتنا عن "عنز البزي" و"بواتويلتميت من لحديد " منوما طبيعيا يسحب اليقظة من عيون الصغار...اما الاخرى فاشبه بصفحة تفسير الكلمات الغريبة في كتاب مدرسي ابتدائي , او ان تقول لطفلك ناولني قدحا من H2O لاشرب واتوضأ بدل ان  تقول الماء...
رغم هذه الاستثناءات فان جيلا عظيما من شعرائنا وعلمائنا فجر نهضة ادبية وعلمية في ظروف قاسية تطبعها البداوة والترحال , وشح المصادر والمراجع , ووسائل التدوين , في وقت كانت فيه الامة الاسلامية تعيش غيبوبة فكرية , وانحطاطا علميا دام قرونا ....ولكن الامر والادهى من كبوة العرب , ان احفاد ولد رازكه , وولد الطلبه , وولد الشيخ سيديا , ومحمد محمود ولد حبيب الل ومحمد يحيى الولاتي , وولد الحاج ابراهيم ( وكلنا احفادهم) وغيرهم كثير من اعلام امتنا ما زالوا يقفون اليوم امام تلاميذهم في درس الادب ليعترفوا بفداحة ما ارتكبه المؤرخون والباحثون العرب في حقنا حين اغفلوا وتجاهلوا نهضة منقطعة النظير احتضنتها بلاد صحراء شنجيط , يقولون لتلامذتهم بعد توطئة عن عصر الضعف : ...وبدأت النهضة العربية مع جيل الرواد والرعيل الاول : البارودي واحمد شوقي وحافظ الخ ...الا يعلمون ان قصائد اجدادهم تغنت بها ركبان الملثمين قبل ان يولد البارودي وشوقي وحافظ؟؟؟؟؟؟؟
اما بعض شعرائنا " الحداثيين" فقد دأب على التقاط  قطع مختلفة من موائد الشعر الغريبة علينا...واذا نحن امام صحون تعج بابزار مختلسات من مطابخ نزار قباني , وابي ريشة , ومحمود درويش....نحن لا نعرف التوت ولا الزيتون  ولا الصفصاف لكننا نعرف النبق والبلح وتيشط وآتيل...ولا نعرف جبل الشيخ  , ولا دجلة , ولا الفرات  ,ولا بردى , ولا النيل الا في السياق التاريخي والحضاري المشترك...ولانعرف السندباد , و لا عشتار ( ولا يجوز ان نرمز بالمسيح  الى ما يرمز اليه به بعض  الادباء المسيحيين  , فالمسيح عندنا عبد الله ورسوله وكفى) ...فاذا تعلق الامر بمرجعيات زمكانية فان ايام مقاومتنا , و"كيعة الاك " و"تامورت انعاج" و"اشتف " و"جوك" و" آكرراي" و"اكليب إنيمش" وحوض آركين ...وبحيرة كنكوصه....  الخ احق ان تكون من مفردات احالاتنا المرجعية.....
حاول بعضهم تعويضا عن ضحالة الزاد اللغوي ان يتخفى وراء الغموض والايهام بالرمزية القاصرة....تسمعه يقرأ وينفعل ويشبع الامداد ويستحسن مقاطعه وصوره  لكننا – معشر المستمعين البسطاء – نظل في واد لا تصله الا اصداء صدئة غامضة تظل حروفها متدثرة بغشاء سميك من العجز والبرودة تخاف ان يفضحها النور ويصيبها الاغماء من رطوبة الاثير..
اننا اليوم بحاجة الى شعر نفهمه...شعر يكون ابنا شرعيا لتجاربنا الذاتية , لا لقيطا نستجلبه من مغاسل الآخرين لنزور له هوية وطنية...اننا بحاجة الى لغة شعرية فيها عمق البساطة وبساطة العمق ...الى ابداع حقيقي يهزنا ويذيبنا ...يميتنا ليحيينا.. نحس معه بالمتاع ....نسمع بين انفاس حروفه وجيب القلوب واناة الافكار ....نشعر فيه ان عصافير الحياة تغرد فوق كل غصن من حقوله آمنة مطمئنة....شعر يحلق بنا الى الفضاءات الرحبة بعيدا عن تحتية الالتصاق بالكلمات الخجلى والعرجاء , واساليب الانبطاح والعجز....اننا اليوم بحاجة الى كتابة بحروف وطنية , ولغة وطنية , وصور وطنية , وبلاغة وطنية , لاشرقية ولا غربية ...نريد ان يكتب شعراؤنا بمفردات تنتمي الى تموج صحرائنا , وشموخ جبالنا الملتحفة بالضباب , وكبرياء كثباننا يلسعها لهيب ايار , نريد ان نسمع همس امواج المحيط , ولغط اخاديد شمامه ....نريد ان تتعفر نضارتنا برماد غاباتنا المحترقة ....وتتبلل بنوار مراعينا الخضلة ...نريد شعرا سامقا كالنخيل ...رائعا كصهيل خيل المرابطين ,  مدويا كصرير اقلام محاظرنا ....هادرا كبحار مداد محابرنا , شامخا كهامات الواحنا الخشبية مصطفة متراصة تتحدى الابالسة من اقزام العولمة , وادعياء التقدم باسم حداثة بلا جذور....


المرتضى ولد محمد اشفق