السبت، 21 سبتمبر 2013


المرتضى محمد اشفق


الرحالة موهوب (1)


اسرج حصانه وغافل قمرا قوسته تسع عشرة ليلة من الادلاج المتواصل , حجبته جوابة آ فاق من سحب لا تكاد تؤنس حتى تيئس ...عابرة للقرى والارياف لكنها  تختفي بسرعة وقديما قال كثير عزة 

واني وتهيامي بعزة بعدمــــــا     تخليت عمــا بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما     تبوا منها للمقيل اضمحلت

...سحب رقيقة وشفافة كملاحف صبايا ليالي الصيف...لكن عشاق السرى يحبونها ويرونها سميكة انخداعا لداعي الغاية ...وانتهازية النهم وصاحب المشروع الميت.....
غادر موهوب مضارب قبيلته ويمم اللاوجهة محددة ...عدا الحصان ملء فروجه....اشرقت الشمس ...واعلمت التائه المتحمس بحرارتها الشديدة....انذرته عبر اشعة كانت تختلس المرور بين بقايا سحب الليلة الماضية التي بدا جمعها في التشتت والتلاشي كمهرجان شعبي يخطب فيه عيي والشمس في رابعة النهار..و كمصلين غالبوا الاستماع الى محاضرة في التركة بعد احدى جمع ايار..في وادي ذات الافاعي حط سرجه ...وفي ظل "طلحاية" عجوز جلس واخرج من جرابه ورقة فيها مكتوب متعرج السطور كآثار نملة عرجاء...قرا ثم اخرج ادوات حلاقته وارسل على لحيته اعصارا جعلها كالحجر الصلد الاجدب بعد ان كانت غابة من شعر...اخرج سيجارة ...ورحل....تمتم: صرت مقبولا بينهم ....استقبل موهوب بحفل كبير وثناء كثير فهو الحسيب النسيب...العالم العامل..المثقف المتوقد....والجهبذ العبقري....والسياسي الواعي....انه غمامة مباركة تداركت ضعف الصدي...كابد كبت خواطر متفرقة ازدحمت في صدره ...الجم بعسر قهقهات ساخرة كادت تفضحه وهو يسمع الثناء عليه من علية لم يحلم بان يصافحوه ....لكنه لجا الى حيلة غريبة..استحضر قطيعه الذي فقده ...والذي استنتج منه ان هناك لعنة اسمها المطر ...تبيد القطعان ان حبست وتقضي عليها ان ارسلت....فغلب الحزن البشارة....اطرق اطراقة المفكر الشارد في اجواء الحيرة والشك...او ان شئت اطراقة حمار يستظل ضحوة بجدار بيت خرب يخيل الى رائيه انه يفكر في ازلية الكون وابديته....لقنوه ما يجب ان يؤدي من ادوار...كالخروج من القمقم القبلي والديني والثقافي....فمن التخلف والحيف ان يظل موهوب غير موهوب يحشر فكره المتنور وءاراءه الحرة لتبقى راكعة لوثن القبيلة واله العلوم التلقينية , كما كان يفعل هو "ل اماكليف" كلما ضعفت شهيتها عن العلف  ...كان يحشو بطنها مستعينا بالماء وبعض الاصحاب في عملية عدوانية راحمة...غلط  مرة في حديث تعبوي امام جمهور بسيط فقال : هيدال ولد داداه ولما صوبوه صب لعناته على الدولة وعلى الحاضرين وقال همسا لا يهم كلهم سواء ....الاعيان لا يميزون بين الرجال والنساء...
لم تمت في موهوب نزعته البدوية بعد , فما زال يكشف المستور , ويذيع احاديث الليل والسر...وما زال ضعيفا امام صوت الانثى ..يرمق اعجاز النساء باعين قذرة....اعطوه الميكروفون مرة ليذيع بنبرته الجهورية بعض الوعود لجمهور مختلط.....لاحظ ان جمع المؤنث السالم غالب على الجموع...فقال انه التقى "ماري تشوي" وهي في الطريق لتمويل مشاريع نسوية مدرة للدخل...غمزه احدهم مصوبا ....فارعد الطبل وقال هكذا كان يفعل زعماؤنا المحليون من قبل.....واضاف ان بعثة طبية يرأسها "بوتن" وبعضوية "شيراك وميشل ابلاتين ومسي وكوفي عنان " قريبة لاجراء عمليات العين والانف ....دوى التصفيق وفاجا موهوب , فارتعش ولم يصدق ان حناجر القوم بحت بالدعاء والتمجيد....فكاد يصدق ما قال وشرع يصفق لنفسه.....
في قاعة الاستراحة علل موهوب لرفقاء البعثة الحزبية انه عمد الى تلك الاسماء ليكون مثقفا...وهو لا يعرف من تكون ...حفظ بعضها من الاطفال والآخر من خصم صديقه العائد من الخارج...وقد اكتشف بعد دربة وطول مراس ان الشعب تسحره اسماء النصارى واستعمال الكلمات الاجنبية  وان كثرة الاستشهاد بها اكبر دليل على التميز الثقافي والحظوة في امتنا الغالية.....
ثم بدا لفارسنا انه لم يخلق للسكون والقرار ...وكيف يالف البدوي طول مكث في الدار....اليست الصحراء الشاسعة ميدان ترحال ...ورمزا للحرية والانعتاق....
اطلق لجواده العنان ...فتحرر بعد حبس..وتنفس الصعداء.....وطوى الارض ميلا...ميلين...عشرة اميال ثم اختلط الزمان والمكان واستحال العد.....في وقفته قرب قطيع بقر تحلق يندب فقيدة لعلها كانت ذات شان وقرن اخرج ورقته ....وقرر المكث حتى تتبدل حاله.....استوحش وجهه وهو يرى في المرآة شيخا وقورا يصلح ان يكون له اتباع وان تقدم له الهدايا والنذور....فاطمان وقال مخاطبا نفسه بصوت مسموع : " الثانية بقي كم ؟ ثلاثة اواربعة لا يهم العدد الآن"....وجد نفسه مسبوقا باثنتين...فاكمل الفائت ..لكنه تذكر انه سها عن تفقد صلاتهم هل يقبضون ام يسدلون....قرر ان يجمع بين القبض والسدل .....اكرم موهوب مرة اخرى وصيغت بيانات محكمة النسج بتثمين التحاقه...فهو العالم بن العالم ...والقلمس الثبيت.... القدوة الفهامة....والمتخطرف الخانر كما قدمه  احدهم بلغة "فيروزآبادية"....واستحفظ ادوارا بدات سطحية ثم صار موهوب مفكرا محللا وخطيبا مفوها.....كان يكثر من التلاوة ....يبدا شطر الآية جهرا ثم يخمن نهايتها سرا مع انين طويل كالضارع يرى جهنم تلقاء وجهه....في احدى اماسيه الدعائية تحدث للناس عن عظمة القائد الكبير "مراد علم دار" وكيف وقف امام النصارى في معركة عين جالوت ...حاول احد مجاوريه على المنصة ان يصوبه فقال انا لا اعرف هذه الاسماء لي طفل صغير "يهدرز" بمراد ولي ابن اخ يقرا التاريخ سمعته يقول حطين وعين جالوت...لكن المهم ان يدرك القوم اني عالم ومثقف عالمي وهذا كما تعلم زمن "الحراقة" ...وانا عضو في التجمع الموريتاني "للحراقة" وفيه كثير من علماء البلد وادبائه وشعرائه ....
تمهر موهوب في قنص الجمهور من الصف السفلي....وكانت سهاراته الدعائية مشوقة ...كان حسن الصوت ...قال ليلة لبعض السمار انه في بلاد الافرنج جعل قدمه اليسرى مباشرة على خط "اكرينتش " الاحمر وكان يبدو كعرف ديك فرنسي...
واصاب موهوب الدوار ...ومل التقيد ببرنامج محدد .....فتابط  جرابه وقرر الرحيل....وما احوجه للنجعة وقد استبدت آلهة القحط وبسطت سلطانها تاكل الخلق ناحلا وسمينا.....ادرك انه اشتهر وانه لم يعد بحاجة الى هوية مظهرية .....وقال في خطبة الوداع : ايها الناس اسمعوا مني ابين لكم ...والسلام عليكم ورحمة الله .....
في طريق عودة موهوب استوقفه رجل في لباس غريب وساله من تكون ؟ فاجاب موهوب : انا حقيقة هو انا كما تراني لا انقص ولا ازيد...هل انت اعمى يا رجل ؟
الرجل  - قدم بطاقة هويتك
موهوب – انا اشرف واشهر من بطاقة الم تتابع التلفزون والاذاعة ؟
الرجل -  نعم هو انت اذن
موهوب – لا انا لست انا ...من تعني ؟ قل لي انت منهم ام منا ؟
الرجل – وانت منهم
موهوب – نعم انا منا
الرجل – من ؟
موهوب – الذين انت منهم سواء لم اكن منهم ....فمن هم؟ اريد ان أ ؤخر جوابي عنك هل تعرف " انكام " في كلام "البيظان" اذن " انكام"
الرجل- انا منهم
موهوب – انا في الحقيقة لا اعرف من انا ولا غيري يعرف من انا......انا تارة اكون انا وتارة اكون غير انا الذي هو انا ....مثلا اسمع هل تعرف الوجيه ....هل تعرف الاحزاب السياسية ...والطوائف القبلية ...هل سمعت بالمعارضة والموالاة؟؟؟؟ فانا الذي لست انا انتمي اليها جميعا , وانا الذي هو انا لا انتمي الى شيء لاني دعي سياسي ..ولقيط فكر وجدني الناس ذات يوم في بركة "آمنيزير" .. .........فهل عرفتني يا رجل؟؟؟ ....لقد علمتني تجاربي ورحلاتي ان الرجل لا يتوقف عن الحركة الم يقل الشاعر:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه   وانصب فان لذيذ العيش في النصب
اني رايت وقوف الماء يفسده   ان يجر طاب وان لــــم يجر لم يطب
ونحن مطالبون بالانتشار في لارض والابتغاء من فضل الله قال تعالى (فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله)....اما التوقف فدليل الموت ...والاستقرار صفة القبور...والدور....و نحن احياء نتحرك لنعيش ...وليس لنا وطن محدد ..فالوطن المحدد هو السجن والقيد ...وطننا  حيث يكون الرعي والماء والصحراء الواسعة والافق الحر....وقد رايت بعض الاغبياء يستوطن حزبا معينا او جماعة محددة وهذا عين السخف وقلة الفهم وقصور الوعي...قدرنا ايها العاقل الالب ان نظل في حالة ترحال كلما اجدبت دار بدلنها بدار مخصبة ...وكلما اجدب حزب قربنا اجمالنا ورحلنا الى حزب ادسم طعاما واسخى يدا.....فانا كما ترى وسمعت هو كل هؤلاء لا تسعني ارض ولا سماء ولا منصة ..ولا لون ...والتلون ميزة الحذاق الذين رضعوا الدهر اشطره ...اما الشقي في هذا الزمان فهو المتخلف عن ركب المحظوظين ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما ينشد في مرابع المغفلين اشعار عنترة ولبيد وابن الطلبه , ويلقي على الدمن والاثافي ارجازا واقفافا بتمجيد الضمير والتشبث بالمبادئ والقيم السامية.....ان ذلك هو الخسران المبين..قل لي : هل رأيت قصرا فخما شيدته المبادئ ؟ هل رأيت سيارة راقية جلبها نقاء الضمير ؟وهل رايت قطعانا تملا مابين "آفطوط  الساحلي وفم لكليته" وفرتها يد مغلولة عما تسمونه المال العام.....ومذهبي ايها الرجل  هو ممارسة السياحة السياسة بالانتجاع والترحال لذلك ترى حصاني مسرجا ابدا....واحزابنا السياسية التي تفوق احزاب القرآن الكريم عددا كلها تسعى لبناء الوطن وحماية الوحدة الوطنية والتشبث بالاسلام....هي جميلة ومتجانسة في طرحها النظري....اما زعماؤها فهم من خيرة ابناء الوطن ....ان جئتهم اخجلوك بالثناء والتبجيل , لكن – هل انت مصغ الي ؟- اياك والعجلة فكلما تباطأت ظنوك تستشير عقلك  فابق ردحا من الزمن في منطقة التردد والتحري مفتعلا انك حرون اذا تعلق الامر بالبحث عن الافكار المقنعة والطرح السليم , سيتتدفق اليك المال تحت عناوين مناسبة تقيك الشعور بالمهانة والاذلال ..سيقال لك هذه هدية متواضعة يشرفنا ان تتقبلوها منا فانت شريف لان الشرف من الام وخالة "نسيبتك " ارضعتها "لوادية" تدعي انها كانت ماشطة احدى الشريفات....وهذا يساعدك في ما تجود به على اتباعك المتحمسين لنا.....ثم امكث طويلا مع المؤلفة قلوبهم فهم ايضا اصحاب حظوة واكرام......واسلل لسانك على كل من تأمن شره وبوائقه حتى يخافك الاقوياء والكبار, فتنحل صوبك صررهم ,وتتدفق اليك دنانيرهم.....وجرد قلمك فهو كلب صيد اهل المدينة ,وأرسله خلف كل صاحب مقام يتتبع عوراته ويكشف سوآته ...وتقوَل عليه ان لم تمتلئ معدة قلمك من نقائصه, ثم ترصده وغافله بزخات متواصلات من قيء قلمك تدنس بريقه وتعفي نضارته ....سيبتغي اليك الوسيلة ناطقة وصامتة , سمها هندا وقل ماقال بن حامدن رحمه الله:

مشت بيني وبين الشعر هندي   وهندي املح الشفعاء عندي

عفوا قبل ان نفترق  هذه محفوظات قد تنفعك ان وعيت وصاتي وهي سر حصاتي : جمال عبد الناصر..سيد قطب...البناء...ميشل عفلق..صدام حسين...لينين....كاسترو..القذافي...الربيع العربي......سانكارا...السلفية.....مبارك.....الصين....جفارا....حماس....نجدة العبيد...الاعتصام....افلام....الشرعية الدستورية...النقابة الوطنية للاحذية المسروقة.....رابطة هواة قتل العصافير....جمعية تشريع عقوق الامهات......نادي القمامة الوطنية....المؤسسة الوطنية لبيع حليب النمل..المنظمة الخيرية لمحاربة الصلاة في المساجد....

المرتضى / محمد اشفق


الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013


محمود في القصر
المرتضى / محمد اشفق

..شيد القصر باحدث المعايير المعمارية , وجهز باثاث اسلمه بحر الى بحر , ومحيط الى محيط ....ارائك وحشايا وستائر جزلة الغزل , آسرة النقش , زاهية الالوان....دواليب رقيقات الحواشي تعصبها سبائك دقيقة متراصة من الزبرجد الصافي , تتوسطها مرايا من البلور الناصع ,  وثريات زمردية تتدلى  من السقف المزيف في قداح مرمرية بديعة الاشكال , ترسل اشعة قزحية  في بخل مدني محكم ....وفي بعض الزوايا كومات من نفائس المتاع لم تعرف "افاتو" بعد طريقة استعماله , ما زالت تنتظر من صديقتها في مدريد مهاتفة ب"كود": التشغيل , الجدران تبرق من آثار طلاء عجيب تداخلت فيه الالوان المختلفة كانها تتنكر حتى لا تحدد هويتها , التلفزيون فن فريد انجزته امهر انامل التكنولوجيا وارقها ذوقا , ضامر كطاوي عشر , يلتصق بالجدار يعوذ به كالخائف من عدو مداهم....لكن محمودا وهو شقيق المختار (صاحب الدار) حل ضيفا ليصل رحم اخيه وقد فرقت بينهما الايام , وساقت كلا منهما الى منكب قصي من مناكب الارض ..... هو رجل نحيف , طويل اللحية كثها , شيبتها شمس الصحراء ونفنف ايار , آدم البشرة تتناثر فيها مساحات صغيرة هي اطلال لون فاتح استوطنها ذات مرة , رقبته كجذع شجرة المراح تعلق عليها السرج والحبال , وقيود الحمير , وارسان الخيل ..والمحاليب....نعم في رقبة محمود سيور ممعوسة كالانساع يتعلق ببعضها غمد موساه , وببعضها محفظته الجلدية التي تحوي وثائقه وقلم الرصاص الصغير , وغير بعيد نسع آخر يتدلى منه غمد طويل رقيق هو ملم المسواك , مع مكتبة من التمائم المتفاوتة الاحجام , بعضعها محفوظ في اطار نحاسي والاخر في غلاف جلدي سميك ...اقعس الظهر كمن يتوقى سوطا ثانية , و كا لمتشوف ابدا الى طلائع قافلة الزرع القادمة من شمامه....سحب خنشاته الثلاث وصب متاعه على الزرابي المبثوثة : امداد ا من طحين النبق , واخر من كسكس البادية المجفف , كومة من مساويك الاراك والبشام .ثم رزم من عيدان مثقفة , منزوعة اللحى , ناعمة الملمس.....هي هداياه الى اخيه وزوجه وبنات اخيه الثلاث ....سال الغبار الابيض الناعم غزيرا على "التراكي" والحشايا المتنفسة برائحة المصانع الراقية ...كان محمود لكرمه البدوي مصرا ان يحفن حفنات يدسها في جيوب الداخلين كبارا وصغارا قائلا (كلوا , هذا حدثني من لا اشك في امانته ان "اوفى" رحمه الله اخبره انه هاضم جيد).......
في المساء عاد المختار وافاتو من العمل ليفاجآ بمنظر غريب في هذا القصر المشيد.....استشاطت افاتو غضبا ودعت زوجها الى اجتماع عاجل في غرفة النوم لمناقشة قضايا خطيرة تمس الامن العام والاستقرار في حوزتهم الترابية.....فمحمود صورة نشاز مقززة في المنزل ولا يمكن مهما كانت الظروف والنتائج ان يبقى فيه , لا بد من تدبير حيلة سريعة لترحيله ...كيف تتحمل افاتو منظرا متخلفا لمخلوق غريب طويل اللحية , متسخ الدراعة خلقها , لا يغطي بطنه  , متشقق القدمين , متصلب اصابع اليدين , كلامه جلجلة , وضحكه فرقعة , كيف ستتحمل ان يراه اصدقاؤهم و ما ذا ستقول لصديقاتها عندما يتخذن من منظره تسلية وسخرية ؟؟ كان المختار وهو المعروف بالضعف امام سيدة قصره يهمس في استجداء مفتعل : لكنه اخي ..فترد المراة اياك ان تعيدها , انا لا احب ان يعرف زوارنا ان لك به صلة نسب , حتى بناتي ما كنت احب ان يعلمن انه عمهن.....على كل حال سنجعل له حصيرا في "الكاراج" بينما نكمل تدابير ترحيله , انسحب المختار مهزوما , لكنه توسل بكبرى بناته الى زوجه ان تقبل انضمام اخيه الى معلم القرآن في بيته , فهو لصيق "الكراج" ويخاف ان يراه احد اقاربهم فيذيع في الحي عقوقه....
كانت الليلة معتدلة الطقس , النسيم الرطب الخفيف يتسلل على استحياء من فتحات الستائر فيحرك خيوط الدخان الرقيقة السابحة في سماء الصالون ممزوجة بعطر خفي منعش , ويشتد تارة فيحدث وهو ينساب بين فجوات الاغصان صفيرا ضعيفا كاصوات هوام الليل الآتية من بعيد...
كان السمار من اصدقاء المختار وصديقات افاتو سارحين غائبين في جو تتخلله احاديث فضول منحطة , وخرجات من افانين الغفلة اغلبها اجترار ماتلوكه الشاشات الصغيرة من نفايات الفنون الرخيصة تتخلص منها كبريات شركات الافلام العالمية , كانت افاتو - اذا سكت اللغو- تعرفهم على مكونات اثاث الدار ومواطنه الاصلية....
دخل محمود جامعا طرفي دراعته بيده لان سرواله تحت وسادته وبدأ يسلم فنهض القوم للسلام عليه , فكانت يسراه على رؤوسهم تفرق شعر كل واحد منهم وتنغرس اظافره في جلدة الراس مباشرة , فيضيع على القوم جهد كبير قضوه امام المرآة للحصول على تصفيفة  عصرية انيقة , لكن الحسنات اهم من ذلك فمحمود مؤمن انه بقدر ما يمسك من شعر راس المسلم عند المصافحة تتدفق اليه الحسنات , اما يمناه فكانت تضغط على ايامينهم حتى تلمس الراحة الراحة..وما اصعب ان تلامس راحة محمود راحة مصافحه فهي مجوفة كنصف المحقن ..وبين وقت وآخر تفشي موجات الصبا سرا كانت تستره اطراف دراعته قبل ان يحررها محمود ليتمكن من تطبيق مراسيم التحية ....كان بعضهم يسترق النظر اليه فيغبطه على هيفه وضمور ثدييه ....جلس وشرع يسالهم عن قبائلهم , و اسعار النعاج في قراهم وعن سعر مد "تغليت" وليس الزرع الابيض.....وحدثهم عن تفاصيل حياتهم في البادية ....وعن انشغال اخيه الاصغر بالرعي والسقي عند البئر....اما امه فكانت غازلة وبر,  وناسجة بنائق الصوف والحصر, تضرب اليها ظهور الحمر وكانت رحمها الله تقيت عيالها بمداخيل ذلك العمل الجميل, ومنه صرفت على المختار ليواصل دراسته في كيهيدي.....ويواصل لكن الايام الجميلة ولت مع المختار ولد داداه , كما ولى البقر  الاحمر, والعوذ المطافيل.....
انسحب النساء الى الصالون الافريقي... فتذكر محمود امرا مهما عاد الى بقية متاعه , واحضر رزم العيدان الناعمة المثقفة المنزوعة اللحى , دخل على النسوة وقال خذي يافاتو هذا "مكرش" وهو واق من الحكة الداخلية لانه من شجر
 السدر, وقد تعلمين ان الماء مضر بالنساء "يدخل عليهن البرد" ..
وانتقل الى الصالون الاوروبي وفرق بقية العيدان على ضيوف اخيه وهو يشرح لهم , وهم لا يفهمون , فاستنجد باخيه قائلا : تعلم ان والدنا رحمه الله ما كان "مكرش" يفارقه في سفر ولا اقامة ...
لم يكن جو غرفة النوم في الليلةالثانية اصفى ولا اهدا منه في الليلة الاولى....بل ان ما بدر من محمود قطع الشك باليقين فهو لعنة نزلت بهذا البيت وحولت احلام ساكنيه الى كوابيس مروعة , كل ساعة تجيء تلد من بوائقه ما لم تحبل به الساعات الماضية .حمي النقاش وكان المختار واهي الحجة هذه المرة خصوصا بعد احاديث اخيه مع الضيوف...فهو حقا لم يخلق ليزور المدينة .فطباعه الغليظة وحتى شكله وتضاريس جسمه كلها منكرة في الحياة المتحضرة وما يزينها من "ماكياج" يطوع الاجسام والطباع ,يحتاج ليصاغ جسمه من جديد الى ان يفكك ويفرق عضوا عضوا ويشرف على اعادة تركيبه وتقويم المعوج من عظامه والناتئ من مفاصله فريق متخصص ماهر من النجارين والصاغة.....
بدا لمحمود - وقد خلا له الجو - ان يتفقد مملكة اخيه , ففتح الدار بيتا بيتا , واطلع على المطبخ وما حوى , والمخزن وما اخفى , وغرفة النوم وفيها حدثت واقعة كانت ثالثة الاثافي ....رأى رجلا يشبهه شكلا , يتقدم اليه باشا هاشا , ومد يده لمصافحته , فبادر اليه هرولة وبادله ابتساما بابتسام وحفاوة بحافاوة , ليجد نفسه يصطدم بمرآة دولاب الملابس و الحلى , فتنكسر ويسقط محمود والدماء تنزف كالشلال من جبهته....فما كان الرجل الا صورته في المرآة...
مصائب الرجل متعددة متنوعة....فبعد ان يخلد اهل البيت الى النوم وقبل ان ينقطعوا عن عالم الصحو يبدأ الاستغفار وانشاد ميمية البوصيري باعلى صوته ...فيفر النوم - وهو زائر ليلي حذر وجبان يطرده الهمس والنجوى ويرتعد فرقا من مناغاة الرضيع , فكيف  يواجه جند البدو ودوي حناجرهم - يفر لا من دار الاسرة المنحوسة  فحسب بل من دور الجيران ايضا....
وحان يوم الرحيل فحجزوا له في "امشامله" ضخمة , ركابها من جنسيات مختلفة : ففي منكبها الايمن  ثلاثون طنا من الاسمنت , وفي منكبها الايسر  عشرون طنا من انواع الحديد , وفي صحن صدرها تتربع خمسة مولدات بجوارها اعمدة ضخمة من اصناف الانابيب ...ولم يكن لآدم بين تلك الاحمال ولد سواه , فاختار راكبا آ خر لا يثور غباره كالاسمنت , ولا ترتفع ضوضاؤه كالحديد....هو جار هادئ الطبع , طويل الصمت , مطرق كالمفكر في العواقب ,  يجثم على سرة الشاحنة , رتب محمود متاعه وخنشاته وقد حوت اعدادا من دراريع اخيه المصابة بداء ثقب الجيب وهو شيب الدراريع المنذر بدنو اجلها , وبعض الاقمصة المتساقطة الازرار, ونعالا نسائية  غير متجانسة تخلصت منها زوج اخيه ....فاطمأن الى جواره وانس اليه , وتمنى ان يقتبس الناس من اخلاق "صمبطل" ...